المغرب والصين يوقعان على مسار جديد من العلاقات الثنائية
إعداد : النعمان اليعلاوي
يجسد الاستقبال الصيني الرسمي للملك محمد السادس، المكانة المميزة التي تحظى بها الرباط لدى بكين والتي تتعمق بشراكة متجددة عبر الاتفاقيات التي وقعها الطرفان خلال الزيارة الملكية، والتي تضمنها إعلان مشترك بين المملكة المغربية وجمهورية الصين الشعبية، والذي تضمن 14 اتفاقية وقعها الطرفان وتهم مجالات متعددة على رأسها الشق الاقتصادي والأمني والقضائي والاستثمار إلى جانب الصناعة.
وفضلا عن الجانب السياسي والاقتصادي والأمني، تحمل الزيارة الملكية للصين رهانات ثقافية، حيث باتت الصين أكثر اهتماما بالسوق الثقافية العربية وهو الاهتمام الذي ترجمته من خلال المنتدى العربي الصيني الذي أكمل ربيعه الثاني عشر، بالإضافة إلى تركيز صناع القرار الصينيين على تقوية الحضور الثقافي في البلدان العربية إلى جانب تعزيز الانفتاح على الثقافة العربية المتنوعة وعلى رأسها الثقافة المغربية التي تتميز بتنوعها.
الزيارات الملكية.. توجه للانفتاح على العالم
تعتبر الزيارة الرسمية التي يقوم بها الملك محمد السادس إلى الصين الشعبية، ترجمة لتوجه سياسي اختاره المغرب يرتكز على الانفتاح على شركاء مختلفين وجدد بالعديد من بلدان العالم، وبالتالي فالزيارة الثانية للملك محمد السادس إلى الصين بعد الزيارة الأولى في عام 2002 هي ترجمة لهذا الانفتاح واستمرار لسلسة من مثيلتها من الزيارات التي قام بها الملك إلى دول معينة كانت آخرها روسيا وقبلها الهند، وقبلهما الولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي تعتبر القمة المغربية الخليجية التي عقدها قادة بلدان مجلس التعاون الخليجي بمشاركة الملك محمد السادس، ثمرة من ثمار التعاون على أصعدة عديدة بين المغرب وتلك البلدان.
ويعتبر فتح المغرب لشراكات جديدة مع دول معينة ذات وزن اقتصادي وسياسي في العالم، توجها دائما وخيارا استراتيجيا، وليس قرارا ظرفيا تمليه الأوضاع السياسية والاقتصادية الحالية لدول العالم، بل إن الزيارة الملكية للصين والتي تصب في هذا المنحى، جاءت ثمرة لتعاون وشراكة فتحها المغرب مع البلد الشرق آسيوي تجسدت في الرفع من الاستثمارات الصينية في المغرب وتعزيز المبادلات التجارية وفتح باب الاستثمار للرأسمال الصيني في قطاعات متعددة بالمغرب على رأسها التجهيز والصناعات الدقيقة، وخلق شركاء جدد وهو بذلك ليس توجها دوريا أو عملا يتعلق بظروف معينة، بل هو خيار له عمق كبير وما الزيارة الملكية اليوم إلى الصين إلا فرصة لإطلاق شراكة استراتيجية متعددة الأبعاد بين البلدين.
وبموازاة انفتاح المغرب على شراكات جديدة مع بلدان تصدرت الآسيوية منها القائمة، يبقى تعزيز التعاون بين المغرب ومختلف البلدان الأوربية محور اهتمام مشترك تؤطره الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية الموقعة سواء بين المغرب وبلدان الاتحاد الأوربي أو بين المغرب والولايات المتحدة الأمريكية، في الوقت الذي بقي البعد الإفريقي وتوجه المغرب لتطوير التعاون جنوب جنوب بين المغرب وبلدان غرب إفريقيا مكسبا للطرفين، ترجمته الجولات الملكية للعديد من البلدان الإفريقية السينغال ومالي والكوت ديفوار وغيرها.
الدبلوماسية الملكية.. «قول وفعل»
التوجه الاستراتيجي للمغرب نحو الانفتاح على دول عدة من العالم، يترجم توجها دبلوماسيا من أجل ترجمة الخطب السياسية التي عبر فيها الملك محمد السادس عن انفتاح المغرب على دول العالم وطموح المملكة لنيل مكانة عالمية في البلدان الرائدة من حيث قوة الاستثمار ونموذج الاستقرار الذي تنعم به، حيث إن الخطب الملكية عبرت في مناسبات مختلفة كان آخرها قمة المناخ «كوب21» بباريس عن توجه المغرب للانفتاح على بلدان العالم، وعلى الأخص البلدان الإفريقية، من منطلق العمق الإفريقي للمملكة، وهو ما ترجمه الملك فعلا بالمئات من الاتفاقيات التي جرى التوقيع عليها بحضوره خلال الجولات التي قام بها إلى العديد من هذه الدول.
وفي هذا السياق، يدشن المغرب لجيل جديد من الدبلوماسية تتأسس على شراكات استراتيجية مع بلدان بعيدة جغرافيا عن المغرب، بل إن تلك البلدان تنتمي إلى حقل إيديولوجي وجيوسياسي مختلف عن المغرب، وهو ما يوضح أن البعد الذي يرسمه المغرب من خلال هذه العلاقات الاستراتيجية يرتكز على نموذج سياسي واقتصادي ينبني على التعاون طويل الأمد من خلال التطلع إلى القوة الاقتصادية والسياسية الصاعدة مستقبلا لتلك الدول، ويضع التوجه الملكي لرسم مسار جديد لدبلوماسية المغرب تأسيس هذا المسار على الانتشار الاستراتيجي للمغرب وفتح آفاق للتعاون مع دول عظمى للعقود مقبلة.
تعاون ثنائي قوي
شكلت المباحثات المعمقة التي أجراها الملك محمد السادس مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، قطب الرحى في الزيارة الملكية التي قام بها الملك للصين، خصوصا أن هذه المباحثات كانت فرصة من أجل تعزيز الشراكة الثنائية بين البلدين، من خلال العديد من المشاريع الملموسة، وفتح الباب للمستثمرين الصينين من أجل الاشتغال على قطاعات التنمية وتعزيز فرص الشغل بالمغرب، خصوصا أن المغرب فتح منذ زمن غير قصير قطاعات للاستثمار الصيني، على رأسها قطاع البنية التحتية من خلال المشاريع الهيكلية ومشاريع لبناء الموانئ والمطارات.
وتشكل المشاريع المهيكلة التي يفتحها المغرب في وجه الصين ومستثمريها، والتي كانت محور المباحثات المعمقة بين قائدي البلدين، ورشا كبيرا بالنسبة للمغرب، خصوصا في مجال تعزيز البنية التحتية وهو المجال الذي برعت فيه المقاولات الصينية التي وسعت بفضل المناخ الجيد للاستثمار الذي يحظى به المغرب، من نشاطها خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلى جانب شركاء تاريخيين كإسبانيا وفرنسا اللتين تحظيان بالحظوة في العديد من مشاريع البنى التحتية على رأسها القطار فائق السرعة وقطاع الموانئ.
وبقدر ما شكل قطاع الاستثمار محط الاهتمام المشترك، فمن شأن المباحثات بين قائدي البلدين فتح الباب للصناعة الصينية المتخصصة في السوق الوطنية المغربية، حيث إن ارتكاز الصين على الصناعة الدقيقة والإلكترونية إلى جانب ما تتوفر عليه من مؤهلات عالية في الصناعة الثقيلة وصناعة السيارات، يمنح المغرب الذي بدأ ينفتح على التكوين والاستثمار في هذا الجانب، الفرص الكبيرة لخلق أقطاب صناعية في العديد من المدن تجلب إليها المستثمر الصيني، كما تضم مراكز للتكوين تطوير الكفاءات المهنية لليد الصانعة المغربية. ويحظى من جانبه قطاع الطاقة المتجددة، والذي أصبح رهانا مستقبليا للمغرب على مشارف مؤتمر المناخ العالمي «كوب 22» الذي تحتضنه مراكش، بالاهتمام الكبير من الجانبين المغربي والصيني على السواء، حيث من شأن التعاون في هذا المجال تطوير دعم برنامج طموح للمملكة في عام 2030، يرتكز على خلق موارد متجددة للطاقة من شأنها تخفيض الانبعاثات الملوثة، إلى جانب فتح مجالات جديدة للتعاون في قطاع التكنولوجيا الدقيقة (صناعة الفضاء والصناعة العسكرية والاتصالات وغيرها).
قرار ملكي لإلغاء التأشيرة على المواطنين الصينيين
للشق الثقافي والسياحي حضور في الزيارة الملكية للصين، فانطلاقا من كون بلاد السور العظيم تصدر سنويا أزيد من 120 مليون سائح للعالم، وهو الوعاء البشري الذي يطمح المغرب لأن تكون له حصة مهمة فيه، على اعتبار التطور المطرد للقطاع السياحي المغربي، ترجمه تعزيز التبادل الثقافي مع العديد من الدول منها الصين، حيث تم إنشاء المركز الثقافي الصيني في المغرب، وهو المركز الذي بات يعتبر محور تبادل ثقافي بين شعوب البلدين، محطة من محطات عديدة للانفتاح المغربي على ثقافة الأخير، على اعتبار ما يزخر به المركز من أنشطة ثقافية ينظمها بموازاة مع المناسبات الوطنية الصينية أو المغربية أو في إطار برنامجه الدائم.
وفي هذا السياق يبرز القرار الملكي باستثناء بعض الفئات من التأشيرة لدخول البلدين وهو الاتفاق الذي وقعه وزير الشؤون الخارجية والتعاون، صلاح الدين مزوار ونائب وزير الخارجية تشانغ يسوي، وهو عبارة عن مذكرة تفاهم تتعلق باستثناء بعض الفئات من التأشيرة للسفر للبلد الآخر، وتبسيط مساطر إصدار بعض الفئات الأخرى، كما أعطى الملك محمد السادس تعليماته لإلغاء التأشيرة لفائدة المواطنين الصينيين ابتداء من يونيو 2016، وهو ما أكده وزير الشؤون الخارجية والتعاون صلاح الدين مزوار، الذي أوضح أن الملك أبلغ الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال المباحثات، التي أجراها قائدا البلدين قراره إلغاء التأشيرة لفائدة المواطنين الصينيين ابتداء من يونيو المقبل.