عبد الإله بلقزيز
أعقب غزو العراق واحتلاله، ثم تدمير الدولة وسقوط النظام وحل الجيش، اندلاع فوضى اجتماعية وسياسية شاملة لم يقو أحد، حتى اليوم، على السيطرة عليها.
ومنذ ذلك الحين، باتت السياسة في البلاد حرفة يشتغل بها رجال الدين وزعماء العشائر والميليشيات، حتى أن مراكزها وحواضنها الأساس لم تعد الدولة ومؤسساتها (من رئاسة وبرلمان وحكومة) والأحزاب السياسية، بل الجماعات الأهلية المذهبية ومؤسساتها الدينية ومراجعها ومخالبها الميليشياوية!
حالة نادرة هي هذه الحالة «السياسية» في عراق ما بعد العام 2003 واستثنائية في طبيعتها. ومع ذلك، فهي تعبير عن مدى التخريب الذي طال العمران الاجتماعي والسياسي في البلاد، بفعل ما جرى، وترجمة مادية للتلف الذي أصاب النسيج المجتمعي فحول العراقيين، في زمن قياسي، من شعب واحد ضاربة جذوره في التاريخ إلى عشائر وطوائف ومذاهب وأقوام وعصبيات يقاتل بعضها بعضا قتال إفناء. وهل قليل أن يتحول الشعب الذي لم يتوقف، في تاريخه الماضي، عن صنع أعظم الحضارات وعن إنتاج أرفع الثقافات، إلى عصابات مسلحة تدمر كل شيء، وجماعات تتنافس على النهب، ورجال دين يسبغون أردية الشرعية «الدينية» على هذه الحال السائدة النكراء؟
من أمثلة الانحطاط التي لا تحصى، في هذا البلد المنكوب بنخبه القروسطية، دخول مفردات هجينة وغريبة في حقله «السياسي» وفي مجال التداول «العام»، وصيرورتها مفردات «سياسية» «عادية» ومألوفة تقول شيئا «مفهوما» أو «مبتدها»، بحيث تبنى عليه السياسات والخيارات أو يقع عليه «التوافق» و«المواضعة»، أي كل ما يجعل السياسة فاعلية ممكنة! والحال إن الأمر فيها يتعلق – في أحسن أحوال الظن بها – بمفردات غير سياسية ولا تجوز في السياسة إلا متى أريد بذلك إفسادها، أو الركوب إليها على غير صهوة سياسية. من هذه المفردات التي تجري مجرى السيل على ألسن الكثيرين في العراق مفردة المرجعية.
متوسلو المفردة هذه من «السياسيين» العراقيين يشيرون بها إلى نخبة من الفقهاء ينظر إليهم – من قبل هؤلاء وبعض بيئتهم المذهبية – بوصفهم أهل الرأي «الشرعي» والفتيا وأصحاب الكلمة الفصل في ما شجر بين العراقيين ويشجر: لا في الدين، بل في الدنيا وفي السياسة التي هي أبعد ما تكون عن مشاغل الفقهاء. وبصرف النظر عما في هذا التوسل بالفقهاء في شؤون السياسة والسلطة من مذمة للمتوسـلين أولاء، لما فيه من بدعة سياسية وضلالة سياسية، ولإفساده السياسة والدين من طريق التخليط بينهما وهتك حرمة كليهما، فضلا عما يعبر عنه من فقر وضحالة في وعيهم، فإن فيه دعوة للفقهاء إلى الخروج عن مألوف وظيفتهم كعلماء للدين في الشؤون التي تقع في نطاق الدين، وتنصيبهم حكاما على العباد من غير تفويض من الشعب! وفي هذا قدرٌ من الإساءة إلى وظيفتهم الفقهية الأصل، نظير الإساءة إلى الشعب والسياسة والدولة.
هكذا تجد القولة بالمرجعية متواطئين بينهم على تنزيل فقهائهم منزلة ولاة الأمر؛ فتراهم يحكمونهم في ما يندلع بينهم من خلافات سياسية: من قانون الانتخاب، إلى القوائم المتنافسة، إلى تحالف الكتل وتشكيل الحكومات، إلى ترسيم الميليشيات وإلحاقها بأجهزة الدولة، إلى مشاكل العلاقة بين الحكومة والأقاليم إلخ. وعلى من يحتكمون إلى المرجعية ارتضاء ما تفتي به المرجعية؛ فرأيها في السياسة والدنيا نافذ كما هو في الدين، لأن لها – من دون الأجسام الاجتماعية الأخرى – الأعلمية التي ينزل أمام بيناتها أي علم آخر أو رأي!
ومع أن المرجعية، التي يتحدثون عنها، مرجعية فقهية خاصة بمذهب بعينه، تجتهد أو تفتي بمقتضى أحكامه ولها مقلدون أصغر يفعلون الشيء عينه، وبالتالي ليس غير أتباع المذهب ملزمين بما تجتهد فيه أو تراه، إلا أن متوسلة المرجعية هؤلاء يريدونها كذلك، أي مرجعية، لأهل العراق جميعا، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم فيلزمون العراقيين كافة، بقوة الأمر الواقع الذي أتى بهم إلى السدة، بالخضوع لأحكامها بدعوى أنها «ملزمة»! وقد يسومونهم الهوان، إن هم شقوا عصا الطاعة على ما تقضي به المرجعية، فيحملونهم على التسليم بتلك الأحكام. وهذا لعمري منتهى الجنون!
لقد مرت على العراق دهور تعاقبت فيها عليه دول وأنظمة سياسية (في العهد الإسلامي على الأقل): منذ بني العباس وقبلهم وبعدهم حتى مطالع القرن الحادي والعشرين الحالي، ولم نسمع بأن أزمته السياسية ممسوكة من مرجعية فقهية، ولا أن خلفاءه وسلاطينه وولاته وعماله يحكمون برضا المرجعية، أو يعـزلون إن شقوا عصا الطاعة. حتى سلطان البويهيين الديلم لم يقم على هذه البدعة الغريبة على العراقيين والعرب المسلمين. وحدها، فقط، هذه الطينة من «السياسيين» أحدثتها إحداثا في العراق، ربما بأثر من لفحة هبت من الجوار. لذلك لا يستغرب أن يقيموا في العراق أسوأ مثال لـ«النظام السياسي»: نظام على مقاسهم وعلى مستوى مداركهم المشدودة إلى مرجعيتها.
في السياسة – والسياسة الحديثة بالذات – ما من مرجعية سوى الدستور والقانون والدولة ومصدر السلطة (= الشعب)، ولا سلطان لجسم كهنوتي إلا سلطانه الروحي على رعيته المذهبية لا على كل المؤمنين. تبدأ السياسة فقط في اللحظة التي يقع فيها الفصل بين مجال المواطنين ومجال المؤمنين، مجال المصالح ومجال العقائد، بين الولاء للوطن والدولة والولاء للطائفة والمذهب.
نافذة:
مرت على العراق دهور تعاقبت فيها عليه دول وأنظمة سياسية (في العهد الإسلامي على الأقل) منذ بني العباس وقبلهم وبعدهم حتى مطالع القرن الحادي والعشرين الحالي ولم نسمع بأن أزمته السياسية ممسوكة من مرجعية فقهية