شوف تشوف

الرأيمجتمع

المدرسـة والتوحيـد العربـي

 

مقالات ذات صلة

عبد الإله بلقزيز

 

بين أجيال المتعلمين في الوطن العربي – وهم يشكلون من الأمة نسبةَ ثلثيْها إلا قليلا- مشتركَات ثقافية وعقدية وتاريخية تُشْعِرهم بقدر مّا من الانتماء المشترك. تكونت هذه المشتَركات بالتربية الأسرية، والقراءة، وتأثير الإعلام… وبالمدرسة، على الرغم من التباعد بين أقطار العرب في الخصوصيات التي هي إما من مواريث التاريخ (تعدد اللهجات العامية، مثلا، أو العادات والتقاليد…)، أو من نتائج معطيات العهد الحديث (سيادة الدول العربية، مثلا، أو هيمنة لسان أجنبي بعينه كثمرة للحقبة الاستعمارية متعددة القوى).

في الأحوال جميعها، لا يجمع بين هؤلاء من روابط السياسة والاقتصاد والإنتاج والعمل ما يضارع الجامع بينهم على الصعد الثقافية واللسانية والدينية والتاريخية. وغني عن البيان ما لهذا الجامع من أدوار كبرى في تصنيع رابطة الالتحام والتضامن لديهم كائنة ما كانت المباعدة السياسية القسرية بينهم. ويمكن أن يقال، هنا، إن التجزئة لم تتكبد خسارة في ديارنا العربية نظير الخسارة التي مُنِيَتْ بها على هذا المستوى الثقافي- اللغوي؛ فقد استعصى هذا الأخير على أحكام التفرقة والتمزيق التي عَرَضت للكيان العربي ولنظام السياسة والاقتصاد والتجارة والتواصل فيه، وجذف ضد تيار الفرقة الساري في مستويات الاجتماع العربي الأخرى.

والحق أنه في الوُسْع تعظيم هذا المشترك وتعزيزه وتوسعة نطاقه من طريق المؤسسة الأقدر على إنجاز ذلك، أعني المدرسة. للمدرسة في كل مجتمع وظيفة استراتيجية لا ينهض بها غيرها، أو لا تضارعها في النهوض بها مؤسسة أخرى: تصنيع الفكرة الوطنية أو القومية وتأسيس مرتكزاتها في الوعي. وتَنْشدُّ هذه الوظيفة إلى هدف أعلى تتغياه كل سياسة تعليمية هو – إلى جانب التكوين والتأهيل العلمي – بناء المواطن من طريق تربيته على قيم المواطنة، أو في الحد الأدنى، تنمية الشعور لدى المتلقي بانتمائه إلى وطن بعينه وتربيته على الولاء له. وهذه وظيفة لا يمكن التعويل على أي مؤسسة أخرى للتنشئة للقيام بها، على الوجه المرغوب، سوى المدرسة بوصفها – في تعبير ألتوسير- جهازا إيديولوجيا للدولة.

ولقد أنجزت المدرسة، في البلاد العربية، هذا الدور أسوة بغيرها في بلاد أخرى في العالم، فتولد من ذلك أن أجيالا من المتعلمين تربت على الفكرة الوطنية وتشبعت بالشعور بالانتماء إلى الوطن، حتى أنك تكاد أن لا تجد منهم مَن يُعَرفُ نفسه بقبيلته أو عشيرته أو مذهبه، أو يعبر عن ولاء ما لعصبيته الأهلية مغلبا إياه على ولائه للوطن. وهذا إنجاز اجتماعي ووطني في غاية الأهمية على صعيد ما يُطْلِقه ويقود إليه من آلية لتحقيق الاندماج الاجتماعي الوطني وتمتين وشائج الرابطة الوطنية ولحمتها. على أن برامج التعليم في البلاد العربية ينبغي أن تلحظ حاجة أخرى موازية للحاجات الوطنية؛ أعني الحاجة إلى تنمية الشعور بالانتماء العربي لأجيال المتعلمين، وإقرار برامج تدريس خاصة بذلك. وهذا أقل الحد الأدنى الذي يرتبه على الدول العربية انتماؤها إلى إطار كياني جامع، هو جامعة الدول العربية، والتزامها بما يقضي به ميثاقها من تنمية عوامل الوحدة بين شعوب الأمة.

لن يتطلب ذلك أمرا كثيرا يمكن، مثلا، توحيد ما يقبل التوحيد من البرامج المدرسية، في مقررات رسمية موحدة لأسلاك التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي، في: اللغة والنحو، والتاريخ والجغرافيا والحضارة، والتربية الدينية، والمعارف العامة، والأدب… من غير أن تخضع المقررات العلمية للتعديل. سيتلقى التلميذ في هذه المواد تكوينا أفقيا يتعرف فيه المشتَركَ العربي في اللسان والآداب والتاريخ والحضارة والدين والثقافة، بحيث ينفتح أفقه الذهني على مصادر من المعرفة أوسع، بكثير، مما تقدمه له برامج التكوين الوطنية. ويمكن إقرار هذه البرامج التكوينية الموحدة من طريق اتفاق بين وزارات التعليم العربية، توكل فيها مهمة إعدادها وكتابتها إلى لجن من الأساتذة مؤلفة من مختلف البلاد العربية، وأن تخضع – دوريا – للتطوير والتحديث باعتماد آلية العمل نفسها.

لا حاجة بنا إلى القول إن أي مشروع عربي مستقبلي للاندماج الاقتصادي، مثلا، أو لتطوير منظومة التعاون والتبادل وتوحيد التشريعات سيكون نجاحه أوفر حظا في ما لو صادف مجتمعات مندمجة ثقافيا، ومتشبعة بالشعور الجمعي بالانتماء العربي الجامع. هذا عدا عن أن التوحيد المدرسي في المشتَرَك العربي سينتج دينامية هائلة من التفاعل الثقافي البيني العربي الذي به تتعزز مكانة الثقافة والأمة في العالم، وتترسخ روابط الصلة بين شعوبها في الداخل.

نافذة:

برامج التعليم في البلاد العربية ينبغي أن تلحظ حاجة أخرى موازية للحاجات الوطنية أعني الحاجة إلى تنمية الشعور بالانتماء العربي لأجيال المتعلمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى