المدرسة ليست حضانة
مع انطلاق الموسم الدراسي انتشرت صور كثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعضها يشجع المبادرات الحميدة التي انخرطت فيها أسرة التعليم رغم قلة الإمكانيات، والبعض الآخر اختار الشتيمة والسخرية والتبخيس، والأخطر هو تلك الصورة التي وفر لها صانعها كل أسباب الاكتظاظ لكي تظهر تلاميذ أبرياء يتزاحمون في طاولات الدرس دون تباعد، مع أن هناك مساحات في الفصل تظهر فارغة في الصورة فضحت النية السيئة لصانعها.
ومهما يكن من أمر فإن مسؤولي وزارة التعليم تفاجؤوا باختيار الأغلبية الساحقة من الأسر المغربية للتعليم الحضوري على حساب التعليم الرقمي، حيث تجاوزت الإحصاءات الرسمية وطنيا عتبة 85 في المائة، وفي بعض الأكاديميات والمديريات الإقليمية كمديرية سلا مثلا، عتبة 95 في المائة، فيما وصلت في بعض المؤسسات التعليمية إلى 100 في المائة.
ورغم أن الوزارة أكدت أن الدخول الدراسي الحالي سيعتمد التعليم عن بعد، على أن يكون الحضور اختياريا، فإن هذه الإحصاءات تبين أن المغاربة اختاروا العكس. أي اختاروا مواجهة الخوف من الوباء بإرسال أبنائهم إلى المدارس. وهذا الاختيار المفاجئ للجميع، فتح السنة الدراسية على سيناريوهات معقدة ومقلقة.
فقبل أسبوعين كان مسؤولو التعليم يمنون النفس بأن يختار المغاربة تعليم أبنائهم عبر الدروس التي تم تصويرها طيلة الشهرين الماضيين، والتي سيتم الشروع في بثها عبر المنصات الإلكترونية وكذا شاشة التلفاز ابتداء من الخميس المقبل، على أن يقتصر التعليم الحضوري على بضعة آلاف من التلاميذ الذين يشتغل آباؤهم وأمهاتهم خارج البيوت، وهؤلاء يسهل توزيعهم على القاعات وتدبير جداول حصصهم. لكن العكس هو الذي حصل.
والواقع أن هذا الاختيار يطرح علينا جميعًا أسئلة ملحة، بعضها مقلق، أهمها ألا يعكس هذا الاختيار حقيقة صادمة وهي أن المغاربة ينظرون إلى المدرسة كـ”حاضنة” Garderie بدل أن تكون مؤسسة للتثقيف والتكوين؟ بمعنى ألا يعني هذا أن المغاربة يحتاجون إلى من يتكفل بأطفالهم لبضع ساعات في اليوم؟
هذه الأسئلة تحيلنا إلى فرضيات مختلفة ومتباينة. فالمؤكد أن هناك فقراء تمنعهم الهشاشة من توفير حواسيب ولوائح إلكترونية والربط بشبكة الأنترنيت، لكن عندما نعرف أن أكثر من 80 في المائة من أسر تلاميذ القطاع الخاص في جهتي الرباط والدار البيضاء، واللتين تعرفان أكبر تمركز للمؤسسات الخاصة، قد اختارت التعليم الحضوري لأبنائها، بل وأن هذه النسبة موجودة أيضا في اختيارات أسر تلامذة التعليم العمومي، سنعرف أن الفقر ليس وحده الدافع وراء اختيار أكثر من خمسة ملايين أسرة إرسال أبنائها للمدارس بدل الدراسة في المنزل.
اختيار الأسر المغربية إرسال أبنائها للمدارس رغم خطورة الوضع الوبائي، هو أبلغ رد على جهات كثيرة، نقابية وجمعوية، طالبت بتأجيل الدخول الدراسي، هذه الجهات لا تعرف ماذا يعني توقف طفل عن التعلم لمدة ناهزت الآن سبعة أشهر وتطالب بأشهر أخرى. هذه الجهات لا تعرف أن مواجهة الوباء لا تكون بالانسحاب والاستسلام بل بالمواجهة الذكية، والإجماع على أن نواصل، كشعب، على غرار بقية شعوب العالم، حياتنا ضدا على الفيروس والخوف منه.
هذا الاختيار، وإن كان حاسما إلى درجة الصدمة كما قلنا، دفع الوزارة إلى اعتماد أسلوب التناوب في تطبيقه، أي تفويج التلاميذ، إما بصيغة أفواج تدرس صباحا وأخرى مساء، أو تفويج يوما بيوم أو أسبوعا بأسبوع. إذ في الوقت الذي ستكون فيه بعض الأفواج تدرس في الأقسام ستكون أفواج أخرى في منازلها تتابع دروسها رقميا. وهذا الأسلوب يبقى في حد ذاته مؤقتا، لكونه يبقى رهينا بالوضع الوبائي محليا. إذ يمكن في أي وقت إغلاق أحياء أو مدن وبالتالي إغلاق مؤسسات تعليمية، والاكتفاء بالتعليم الرقمي لوحده.
فإذا كان العديد من الأسر قد اختار التعليم الحضوري لكونه ينظر إلى المدرسة كحاضنة، فإن هذه الأسر مجبرة أن تنخرط في الحل، وأن اختيارها للحضوري لا يعفيها من مسؤولية متابعة تمدرس الأطفال في المنازل. بمعنى أن المسؤولية الآن أضحت مشتركة ولا مجال للتنصل منها. فإذا كانت الوزارة الوصية تؤكد أنها تتحمل مسؤولية استقبال التلاميذ الراغبين في الحضور للمؤسسات التعليمية، فإن تدبير هذه الرغبة يفرض على أسرهم تحمل مسؤولية متابعة تمدرس الأبناء لكون العديد من الدروس سيتم تقديمها عن بعد في إطار ما قلنا إنه “تناوب”.
يلزم عن هذا أنه لا مفر من تفكير الحكومة في توفير أجهزة رقمية تساعد الأسر الفقيرة في التعليم الرقمي للأطفال. وأيضا حملات تواصلية موسعة مع الأسر لتنبيهها إلى خطورة عدم مراقبة استعمال الأطفال لشبكة الأنترنت، خصوصا في ظل وجود شبكات دولية للبدوفيليا، والتي وجدت في تطبيقات الألعاب والدروس مرتعا خصبا لأنشطتها الإجرامية، المتمثلة أساسا في استدراج الأطفال لعالم ما يعرف بـ”الأنترنت المظلم” حيث تغيب كل القوانين والأخلاق، ويحضر الابتزاز والتهديد والتحرش والاستغلال.
كما يلزم عنه أيضا تطوير المحتويات المقدمة في ما يعرف بـ”التعليم عن بعد”، لأن تصوير فيديو لأستاذ يشرح درسا أمام سبورة لا علاقة له بالتعليم الرقمي بل فقط تعليم مشابه للحضوري simulation. لكون التعليم الرقمي هو توظيف أمثل للخصائص المميزة للتطبيقات الرقمية، وهي بالمئات في كل التخصصات وموجهة لكل المستويات. فإذا كان الحضور المباشر للمدرس هو الذي يحفز الأطفال على تعلم اللغات مثلا، فإن التعليم الرقمي يوفر تحفيزات كثيرة على تعلم اللغات أكبر بكثير من تلك التي يوفرها التعليم الحضوري.
لنصل إلى خلاصة أن “توافق” الوزارة الوصية والأسر على التعليم بالتناوب، الذي يجمع التعليمين الرقمي والحضوري يعتبر صيغة “نموذجية” إلى حد كبير إذا ما أحسنا استغلالها. فإذا كان المدرسون والإداريون والمسؤولون التعليميون يشكون طيلة عقود من ضعف انخراط الأسر المغربية في الحياة التربوية لأبنائها، بشكل حول أغلبية جمعيات الآباء في المؤسسات التعليمية إلى جمعيات صورية، حولها البعض إلى واجهة للاستقطاب السياسي والمذهبي، فإن ظروف الجائحة تجبر كلا الطرفين على التنسيق. ولا مفر لهما من ذلك.
فرغم الضربات التي تلقتها المدرسة لا تزال الأسر تراهن عليها في التربية والتكوين وأيضا في حل مشكلات عائلية. فكما أن المدرسة هي آلية للترقي الاجتماعي فإن الظروف الحالية أثبتت أنها أيضا آلية للاستقرار الاجتماعي. لذلك لا مجال للتنصل من المسؤوليات، لكون التعليم مسؤولية جماعية. فالأسر لم تعد مطالبة فقط بإرسال أبنائها للمدرسة بل بمواكبة تمدرسهم، والأهم السهر على تربيتهم.