بعدما أعد القوانين التي ستحد من الخدمات التي تقدمها فروع البنوك المغربية على ترابها للجالية المغربية يستعد ماكرون لتفكيك المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية.
مما يعني أن 1100 مسجد في كل فرنسا والتي يمثلها المجلس ستفقد محاورا جادا مع الدولة الفرنسية، ويعني أيضا أن الخيط الناظم الذي يربط بين الجالية وبلدها الأم عبر الأئمة والخطباء والوعاظ الذين يتم إرسالهم من المغرب سينحل. ويعني أيضا أن عمل المرشدين الذين يعينهم المجلس في المستشفيات والسجون والجيش سينتهي، فضلا عن بناء المساجد.
ماكرون يحاول قطع جميع الخيوط التي لازالت تشد الجالية المغربية في فرنسا ببلدها الأم، وهو يركز على التحويلات المالية والدين، خصوصا فصل الجيل الجديد من أبناء المهاجرين عن هويته وعقيدته.
واضح أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لديه مشكلة مع الإسلام كدين، فهو يرى أن هذا الدين يعيش انتكاسة في أكثر من مكان في العالم، والحال أن الذي يعيش انتكاسة هم المسلمون وليس الإسلام، فالإسلام كدين ينتشر كل يوم في كل بلدان العالم، فيما المسلمون يعيشون في بلدانهم أهوال الحروب التي يشعلها حولهم الإمبرياليون الذين تعودوا استعمار الدول ونهب خيراتها تحت ذريعة نقل الحضارة والتمدن إليها.
ماكرون يريد وضع قوانين جديدة ظاهرها محاربة التطرف الديني والتمويل الخارجي للجمعيات الدينية والتحريض على محبة الجمهورية، فيما باطن هذه القوانين هو محاصرة الإسلام تحديدًا، لأن الكنيسة المسيحية في فرنسا تابعة للفاتيكان واليهود الفرنسيون ولاؤهم لإسرائيل، وهؤلاء يحق لهم أن يتلقوا تمويلات خارجية وأن يكونوا تابعين للخارج فيما مسلمو فرنسا يمنع عليهم ذلك.
ماكرون يعد بإسلام الأنوار، والحال أنه لا يمكن أن تخترع إسلام الأنوار في بلد كفرنسا يعاني فيه المهاجرون والجالية، خصوصًا المسلمة، من العنصرية حيث إن أسماءهم وملامحهم كافية لتوقيفهم وتفتيشهم، ناهيك عن إقصائهم الممنهج من الوظائف والمسؤوليات التي تتناسب ومؤهلاتهم. لذلك فالمسلمون في فرنسا محتاجون للمساواة وليس لخطابات حول المساواة.
واضح أن ماكرون لم يكن يجرؤ على الحديث عن اختراق الإسلام الوهابي للتعليم الفرنسي لولا أن السعودية تخلت عن دعم هذا الإسلام الوهابي المتطرف. بمعنى أن البلد المصدر لهذه الإيديولوجيا تخلى عن تصديرها، لذلك فالدولة الفرنسية التي كانت تغمض عينيها وتستقبل هذه البضاعة مقابل صفقات تجارية أصبحت اليوم في حل من هذا القيد، ولذلك أصبح ماكرون يتحدث عن قطع التمويل الخارجي عن الجمعيات الدينية دون تحرج أو خوف من أن يغضب المملكة العربية السعودية. والواقع أنه منذ عقدين على الأقل وأصوات الحكماء في فرنسا تتحدث عن انحرافات العلمانية الفرنسية، بحيث يمكننا الحديث دون مبالغة عن علمانية معادية للدين، خصوصا الإسلام، بدل أن تكون، كما عرفها فلاسفة الأنوار، عقلنة للمجال العمومي، وفصلا للمجال الخاص والشخصي عن العام وكل ما له علاقة بالدولة.
إيمانويل ماكرون وجد نفسه في خضم هذه الأزمة، وبدل أن يضع أرضية تسمح بتصحيح معاداة الجمهورية الخامسة للعقائد، وخاصة الإسلام، ويبدأ في تأسيس ما يطالب به الفرنسيون، والمتمثل في جمهورية سادسة، فإنه آثر أن يركب موجة الشعبوية التي تجتاح العالم في السنوات الأخيرة، متوعدا بتوقيف استقدام الأئمة، وخاصة من تركيا والمغرب والجزائر وتونس كما جرت العادة قبل سنوات، بحجة أن هؤلاء الأئمة يتحدثون بالعربية والدولة الفرنسية لا تفهم شيئا في ما يقولون ويروجون من أفكار.
أطلق ماكرون مفهوما جديدا غير مسبوق هو «الانفصاليون الإسلاميون». والحل بنظره هو قطع علاقة مسلمي فرنسا مع الأئمة الذين ترسلهم دولهم إليها لتأطير هؤلاء الفرنسيين المسلمين. وفي العقود الماضية، كانت فرنسا تستقدم سنويا حوالي 300 إمام، منهم 150 من تركيا، و120 من الجزائر، و30 من المغرب، ينضافون إلى مئات الأئمة الذين يشرفون في الأيام العادية، فضلا عن شهر رمضان، على تأطير ما يناهز 6 ملايين مسلم، بما مجموعه 1800 إمام تقريبا.
أما الآن، فإن كل من يريد الحديث في الدين، يتوجب عليه أن يتحدث بلغة واحدة هي اللغة الفرنسية، وينبغي أن يكون فرنسيا وليس أجنبيا. ليتضح فعلا أن أزمة الهوية في النموذج العلماني الفرنسي أصبحت أمرا واقعا.
فبالنسبة لماكرون الإسلام الذي يسيطر على فرنسا هو الإسلام السياسي المناقض لقيم الجمهورية، وينبغي وضع حد له. مذكرا في الوقت نفسه بأنه ليس ضد الإسلام كديانة، ولكنه ضد مسلمين يفضلون «الانفصال» عن أسلوب الحياة الذي تمثله الجمهورية.
أغلب تعليقات كبار المعلقين السياسيين طرحت علامات استفهام حول توقيت قرار ماكرون إعلان الحرب على الإسلام السياسي. ففي الوقت الذي يتم فيه تسجيل وجود ما يفوق 47 حيا في فرنسا، وفق إحصاء رسمي، خارج سيطرة السلطات الفرنسية، لكونها أحياء تقع تحت سيطرة جماعات متطرفة وعصابات اليمين المتطرف، فإن ماكرون فضل توظيف «الإسلاموفوبيا» لرفع شعبيته المنهارة بسبب طريقة تدبيره السيئة للمفاوضات مع روسيا بشأن الحرب ضد أوكرانيا.
هكذا تحولت العلمانية الفرنسية من تحييد مجال الدين وفصله عن السياسة إلى علمانية معادية للإسلام بشكل صريح ومعلن. بل وأصبح الدين ورقة سياسية. لذلك يتحدث بعض الحكماء الفرنسيين أمثال الفيلسوف اليساري مارسيل غوشيه عن كون العلمانية الفرنسية أضحت في حد ذاتها عقيدة متطرفة، لكي يتضح في النهاية أن موقف ماكرون هو انحياز واضح لليمين المتطرف بدل أن يكون رئيسا لكل الفرنسيين، مهما كانت دياناتهم.