شوف تشوف

الرأي

الماضي المركّب

يونس جنوحي
وسط أخبار الوباء والغلاء، لا أحد انتبه إلى ما يجب فعلا الاهتمام به، ليس الآن فقط، وإنما في مستقبل الأيام أيضا.
223 مخطوطا، عدد الوثائق التي شاركت في جائزة الحسن الثاني للمخطوطات في نسختها الأربعين، إذ أعلنت الوزارة نتائج هذه الدورة
وبعض المخطوطات التي شارك بها أصحابها أو مُكتشفوها كانت تضم مجموعة من العناوين، وهو ما جعل المواضيع المشاركة في المسابقة يصل إلى ثلاثمائة وأربع عشرة عنوانا بالضبط. وهو ما يعني أن المغاربة اليوم، عليهم أن يتعرفوا على 314 وثيقة نادرة في مختلف المجالات منها الأدب والطب والتاريخ. لكن بطبيعة الحال، الروتين اليومي وأخبار السياسيين وتسخينات الانتخابات المقبلة، لا تترك وقتا لجل المغاربة لكي يعرفوا معلومات بهذه القيمة. كان الله في العون.
من بين المخطوطات المتوجة، حسب ما جاء في المعلومات التي نشرتها وزارة الثقافة، مخطوط نادر في علم الطب، جاء في مجموعة من أربعة وعشرين مخطوطا، وهو عبارة عن مقالة بعنوان: «مقالة في تدبير صحة الأعضاء وترقيتها من حلول الأدواء» لأبي إسحاق القارجي الطبيب.
هذا الطبيب عاش في الزمن الذهبي بالأندلس، ووجدت مخطوطات أخرى له تعود لسنة 637 هجرية، في مجال الطب.
كتب عن دور الأعضاء الحيوية في جسم الإنسان ووضح طرق إجراء الجراحة بأدوات ابتكرها مسلمو الأندلس، وتعمق في وظائف الأعضاء، وتوجد اليوم بعض الإشارات إلى أبحاثه التي أجراها قبل ثمانية قرون من اليوم، نعم قبل 800 سنة، في مراجع رسمية معتمدة في كبريات كليات الطب في أوربا وأمريكا.
خبر فوز مخطوط له بجائزة وطنية للمخطوطات لا يستهوي وسائل الإعلام للأسف، ولا حتى المغاربة اليوم يبحثون عن خبر من هذا النوع، حتى أن المهووسين بالمخطوطات يظهرون وكأنهم قادمون من كوكب آخر. دون الحاجة إلى إطالة الشرح بخصوص استهداف «سارقي» المخطوطات وجامعي التحف لهذا النوع من الكنوز العلمية والمعرفية.
اقتسم الجائزة التقديرية الكبرى مع مخطوط أبو إسحاق القارجي، علامة آخر توفي قبل ثلاثمئة سنة وترك مخطوطات في مواضيع فقهية. اسمه محمد بن الحسن البناني، وموضوع الرسالة هو «رسالة في أحكام الطاعون». بالإضافة إلى مخطوط آخر لعلامة آخر من الصحراء، وهو معاصر لنا إذ توفي سنة 1934، واسمه محمد المصطفى بن ماء العينين. موضوع مخطوطه: «رسالة حول أمراض السل».
مشكلتنا في المغرب أننا نقود بسرعة جنونية دون النظر في المرآة. ندوس على كل التراكم الذي جمعه آخرون عبر التاريخ. ولعل هذه المخطوطات التي قدمت في هذه الدورة محظوظة مرتين. الأولى لأنها بقيت مقروءة ومحفوظة طيلة قرون لكي تصل اليوم إلى الدارسين والمهتمين. والثانية لأنها وجدت طريقها نحو الأرشيف الرسمي وتُوج جامعوها عرفانا بما يقدمونه في مجال البحث الأكاديمي والتوثيق.
تخيلوا لو أن هذه المخطوطات وقعت بين أيادي الذين يتاجرون في كل شيء بدءا من العقار وصولا إلى عقود العمل في جني التوت البري بإسبانيا. سيكون مصيرها أن تظهر في مكتبة ما من العالم بعد سنوات، دون أن نعرف حتى كيف وصلت إلى هناك، وإما أن تستعمل في حطب التدفئة. وربما قد تغرق تحت ركام أطنان من التراب. إذ أن عددا من الأماكن التاريخية آلت للسقوط في المدن القديمة والقرى المنسية، وهوت معها وثائق مهمة بما فيه رسوم ملكية بعض القصبات والقصور التي تعود إلى زمن الموحدين.
لقد كان أجدادنا قبل ثمانية قرون من اليوم، ينظرون لطرق احتواء الوباء، بينما سياسيونا اليوم، يخبروننا كل صباح أن هذا الوباء اللعين ينتقل عبر «التعناق» كما لو أنهم باعة للأعشاب في ساحة جامع الفنا.
رغم أن اللغة عندنا لا تدعم تصنيفات في تصريف الزمن الماضي وتتركه بسيطا، إلا أننا بتنا نستحق فعلا تصنيف الـPassé composé»»ولو على سبيل الاستعارة، رغم مقاطعة المنتجات الفرنسية، حتى نصف ماضينا «المركّب» بدقة متناهية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى