المؤسسية ثقافـة في المقام الأول
عبد الإله بلقزيز
ما يميز الدولة الحديثة عن الدولة التقليدية سيادة العقلانية فيها: في تنظيمها وتوزيع السلطات فيها، وفي نظام عمل أجهزتها ومؤسساتها.
والعقلانية في الدولة أو – بالأحرى- العقلنة هي ذلك النظام الصارم من القواعد التي تنتظم عمل مؤسساتها على نحو لا يكون معه عبث أو فوضى أو تجريب أو مزاجية في ذلك العمل، وعلى نحو ينصرف فيه عملها ذاك إلى خدمة المصلحة العامة حصرا.
أما ذلك النظام الصارم من القواعد فهو من نوعين ومستويين مترابطين: عام وخاص. العام منه يمثله القانون بما هو التجسيد المادي للإرادة العامة؛ لذلك تُعْرَف الدولة الحديثة بكونها دولة القانون، أي الدولة القائمة على حاكمية القانون ومرجعيته.
وأما الخاص من ذلك النظام فيمثله سن القوانين الخاصة بعمل الأجهزة والمؤسسات مشتقة من القانون العام، والالتزام بما تقتضي به أحكامُها، وعدم انتهاكها، لأن في ذلك انتهاكا لنظام القانون العام الذي بُنِيَتْ على مقتضياته.
هكذا تخضع ميادين الحياة العامة في الدولة الحديثة للعقلنة في التنظيم والتدبير والعمل: عقلنة في الاقتصاد والإنتاج؛ عقلنة في السياسة والإدارة؛ عقلنة في المالية والضرائب؛ عقلنة في الجيش والأمن والاستخبارات؛ عقلنة في القضاء؛ عقلنة في الاجتماع والتعليم والأسرة والنظام الصحي…إلخ. بهذه العقلنة الشاملة، السارية في مجموع الاجتماع السياسي والمدني، يتفوق نموذج الدولة الحديثة على غيره من نماذج الدولة التقليدية التي لا يمثـل القانون وازعا حاكما فيها، أو التي لا يزال يعتور السلطة فيها فساد: حُكـم الهوى، المحسوبية، الولاء الخاص، الاستزلام… إلخ.
ولأن الدولـة الحديثـة دولة قانون، فإن أَمْيَـز ما تتميـز به مـن سمات هـو رسوخ النـظام المؤسسي فيها، إذِ العلاقة بينهما علاقة تلازم ماهوي؛ ذلك أن المؤسسية (= نظام المؤسسات) هي التجسيد المادي الأرفع للقانون، والتعبير المكثف عنه. بل ما من شك في أن القانون نفسه لا يكون نافذ المفعول، إلا متى وقع تـنزيله وتجسيده. وإلا بقي نظريا أو صوريا، وليس مثل المؤسسات ما يمكنه أن يُجسده ويُـنْـفِـذ مفعوليته المادية في النظام المجتمعي.
من النافل القول إن أظـهر مظاهر قوة المؤسسية ونجاعة عملها أن مبـناها في المقام الأول، على المسؤولية وتراتب سلطاتها ودرجاتها، وعلى ما يقترن بالعمل بها من محاسبة تترتب عنها. والمسؤولية قرينة على الاِنْوِضَاع تحت حكم القانون، أما المحاسبة فإنفاذ لأحكام ذلك القانون إما لبيان تواؤم أفعال المسؤول مع مقتضيات القانون، في حالة احترامها، أو عقابا أو ردعا لها عند مخالفتها أو انتهاكها. ومن البيـن أن المؤسسية تقـدم، بهذا المعنى، ضمانة مادية لاحترام النظام القانوني في عمل مؤسسات الدولة وأجهزتها لأنها، مثلما قلنا، تجسيد للقانون عينه.
يقودنا هذا إلى القول إنـه ما كل إطار للعمل أو للإنتاج أو للتسيير يقبل تعريفَه بأنه مؤسسة، حتى وإن كان قانونيا أو سمح به القانون.
ينطبق ذلك على ما ينشأ في نطاق الدولة ويكون رسميا، أو ما ينشأ في نطاق مدني فيكون في عداد الأطر غير الرسمية أو غير الحكومية.
تتميز المؤسسة عما عداها من أطـر وإنشاءات بنوع العلاقات التي تقوم داخل نظامها، أي بالعقلنة في الإدارة والتسيير والعمل والإنفاق، وبالاحترام الصارم للنظام الجاري.
وفي نطاق هذه العلاقات، ليست من سلطة داخل المؤسسة فوق سلطة ذلك النظام، ولا يملك أحد أن يحْتاز لنفسه منها نصيبا إضافيا أو زائدا إلا ما يمنحه إياه النظام.
ويقترن بالعقلنة فيها مبدأ الشفافية ومبدآ الجماعية والتكامل في العمل داخل المؤسسة بوصفها كـلا أو جسما واحدا منذورا لإنجاز تتضافر فيه جهود أعضائه كافـة. وغني عن البيان أن هذه السمات لا تنطبق على جميع الإطارات التي تُنشِئُها الدول أو المجتمعات (الأحزاب، مثلا، والنقابات والجمعيات والشركات…).
نتأدى من هـذا إلى القول إن المؤسسية هي، في المقام الأول، ثقـافـة ومسلك وروحية في العمل، قبل أن تكون أنظمة قانونية وقواعد ومسؤوليات متراتبة.
وهي إن لم تكن كذلك – أي ثقافة وقيما – لن تفـيد الأنظمة والقوانين في جعلها مؤسسة، بل غالبا ما تظل تلك حبيسةَ الأوراق التي دُبجت فيها: لا حياة فيها ولا بيئة ملائمة تحملها وتجسدها.
ما أغنانا عن القول، إذن، إن المؤسسية ثقافة لا تُـنْتِجُها المؤسسات بالتلقاء، بل تحتاج إلى من رَبِيَتْ أذهانهم على النظام والمسؤولية، وتشبع سلوكهم بقيم النزاهة والإخلاص في العمل. وبكلمة، تحتاج إلى أدوار مؤسسات تحتـية سابقة، في مضمار حسن التنشئـة، مثل الأسرة والمدرسة. هذا ما يفسر لماذا كانت الأخلاق والتربية والتعليم أبوابا في كتب فلاسفة السياسة؛ منذ أفلاطون وأرسطو حتى فلسفات اليوم.