اللقاح بين البراغماتية ودقات القلب
بيير لوي ريمون
كنت قد تناولت في مقال موضوع اللقاح من زاوية حصرية إنتاجه في بلدان دون غيرها. وإذا بقارئة علقت بما يلي: «اللقاح الحقيقي موجود داخل كل وطن، لأن هناك تشابها بين الإنسان وأرضه التي ولد وعاش فيها. امزج هواء وماء وتراب أرضك مع دقات قلبك، ستجد فيه العلاج ضد كل الأمراض».
عندما قرأت هذه الجمل، قررت أن أخصص لها مقالي لهذا الأسبوع بالكامل. وما برر أن أقدم على هذه الخطوة لأول مرة، قناعة صاحبة التعليق بكلامها، تعلقها بحب الوطن (ألم يتعلم بعضنا منذ صغره أن حب الوطن من الإيمان؟)، ووصولها إلى حقيقة من المفروض أن تكون ماثلة لكل عين. «امزج هواء وماء وتراب أرضك مع دقات قلبك، ستجد فيه العلاج لكل الأمراض».
أولا، من الصعب ألا تهتز لك مشاعر وألا تنسجم عاطفيا مع كلام يؤمن إيمانا راسخا بقدرة وطنك، أيا كان، على توفير أسباب التضامن والتآزر في الشدائد، والتطلع إلى حل يضمن للجميع طوق النجاة الذي به يأتي الفرج. وقد يقول قائل إن طريق اللقاح طريق شائك يتحمل سالكه صعوبات جمة، يختلط فيها النفوذ الدبلوماسي برهانات مالية تتصل بمصالح مختبرات و«صفقات» أحسن بعضهم إبرامها، فيما ضاق البعض الآخر عن الحصول على ضمانات.
قد يقول قائل ليست كل البلدان متساوية في الوصول إلى اللقاح، أو في وصول اللقاح إليها، وهذا صحيح. قد يرتب البعض خريطة جديدة للعالم، تكرس تحكم الصين وروسيا في دبلوماسية صحية يرجح أن تحول الدبلوماسية التقليدية إلى صورة طبق الأصل لها، وكأن أصل الدبلوماسية أصبح من الآن فصاعدا دبلوماسية اللقاح، كل هذا صحيح، لكن الصحيح أيضا، إذا سلمنا بارتكاز فروع الدبلوماسية الراهنة على أصل واحد، أن تتغير طبيعة تصورنا للوطن. نعم، جميعنا يتمنى لو نجح كل بلد في إنتاج لقاحه الخاص، في أن تكون الأرض الشاهدة على ولادتك، أو التي أمضيت فيها السواد الأعظم من أعوام حياتك، أرض ابتكار العلاج الواقي من عوادي الدهر، فتتقوى بقوة العلم الذي انتشر على حدوده، فتفخر بفرق أبنائها العلمية التي وصلت إلى الاختراع السليم. لكن قلما تكون هذه الفكرة مرآة عاكسة للحقيقة، إذا حكمنا بمعايير الحقيقة البراغماتية التي تكرس موازين قوى تكتب فيها الغلبة للبلدان صاحبة التكنولوجيات المتطورة، التي امتصتها ظاهرة هجرة العقول، قلت إن حب الوطن حقيقة من المفروض أن تكون ماثلة لكل عين. فهي حقيقة تتجاوز الحقيقة البراغماتية. لا تدخل في صراع معها.
بعبارة أخرى، لك أن تتمثل هذا البحر من الصعوبات المحيطة بعملية وصول اللقاح إلى كل البشر، مهما كان لونهم أو جنسهم أو دينهم، لك أن تتصور تشابكات قريتنا الصغيرة التي لا تفصل أي خطوة واسعة النطاق عن قوانين السوق وضوابط العرض والطلب، هذا صحيح. لك أن تتصور هذا وذاك. ولك أن تتصور أيضا «هواء وماء وتراب بلدك»، لك أن تتصور «دقات قلبك»… وأنت تعلم أنك ستجد اللقاح الذي يناسبك يوما في بلدك، سواء أكان صنع فيه أم لا، وربما صنعته شركة أجنبية مستقرة في بلدك، مما ساهم في النشاط الاقتصادي لهذا الأخير.
في تقديري، يحتمل كلام قارئتي التي أشكرها تأويلين: تأويل براغماتي تحكمه زوايا دبلوماسية واقتصادية قاهرة، لكنه يحتمل أيضا تأويلا متأصلا في حقيقة ميتافيزيقية تضع اللقاح أينما صنع، والوطن أينما وجد على خريطة العالم، في توأمة ناجحة تبشر بتحقيق خطوة كبيرة جديدة للبشرية.