الكيل الفلسطيني الذي طفح
معن البياري
لافت في بيان مجلس منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية الذي صدر عقب قتل جهاز أمني فلسطيني، يوم الخميس الماضي، الناشط نزار بنات، إتيانه على تصاعد أعمال الاعتقال السياسي من الأجهزة الأمنية، منذ إعلان تأجيل الانتخابات العامة نهاية أبريل الماضي، والتي كان مقررا تنظيم التشريعية منها في 22 الشهر الماضي (ماي) والرئاسية في 31 الشهر المقبل (يوليوز). وجاء في البيان أن هذا ينذر بانزلاق دولة فلسطين نحو «الدولة البوليسية»، ويهدد السلم الأهلي. وبالغ الأهمية من المنظمات المدنية أن بيانها، بعد أن يحيط بالجريمة المروعة التي قضى فيها بنات، وبعد مطالبته بلجنة تحقيق مستقلة لديها صلاحيات واسعة، في التحقيق والتقصي، وفي «إرساء المسؤولية السياسية والأمنية، وتقديم كافة المتورطين فيها إلى العدالة»، يطالب «بسرعة تحديد موعد جديد لإجراء الانتخابات الفلسطينية العامة (الرئاسية والتشريعية) وانتخابات المجلس الوطني، وإعادة تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، …». ولا يحتاج واحدنا إلى حصافة خاصة ليخلص إلى المعنى هنا، وموجزه أن التآكل الفادح في الشرعيات القائمة في المؤسسة الفلسطينية الرسمية يتوازى مع انحدار واقع الحريات، وشراسة المؤسسة الأمنية في تعاملها مع أصحاب الرأي المعارض، على ما دلت مداهمة نحو 20 عنصرا أمنيا منزل بنات، وإشهار الأسلحة في وجوه أهله، ورش الضحية بثلاث علب من الفلفل الحارق، وهو نائم، ثم ضربه بوحشية وتجريده من ملابسه، واقتياده إلى مركز أمن، ثم وفاته.
الواقعة الدامية موصولة مع أحداث تتابعت في الأسابيع الستة الماضية، أكدت البديهي، وموجزه أن الوقت قد حان لأن تغادر القيادات التي تتحكم بالقرار في السلطة الفلسطينية مواقعها، ليس فقط لأنها شاخت، ولأن مصداقيتها اهترأت، وإنما أيضا وأيضا لأن الكيل الفلسطيني قد طفح، ولأن الحاجة أكثر من ملحة إلى تجديد ذلك الطاقم القيادي والإداري النافذ. ولكن لا أحد في وسعه تصميم تصور ممكن التحقق لإحداث هذا الأمر، إن في ثورة ساخطة، قد تحدث أو لا تحدث، أو بكيفية أخرى، تسعف، بقدر ما، في الوصول إليها، انتخابات شفافة. والمؤكد أن الرئيس محمود عباس، وقيادات في حركة فتح في إهابه، استشعروا أن هذه الانتخابات لو جرت في موعدها الشهر الماضي لأحدثت ارتجاجا في مواقعهم، فكان التأجيل الذي توسل التحايل والكذب في قصة منع إسرائيل التصويت في القدس الشرقية. وهذا أحدث استطلاع للمركز الفلسطيني للدراسات السياسية والمسحية، وقد انتظم في الشهر الحالي (يونيو)، يفيد بأن ثلثي الجمهور الفلسطيني على قناعة بأن عباس أجل الانتخابات لأنه خشي من نتائجها، وأن 72 بالمائة في الضفة والقطاع يريدون إجراء الانتخابات في أقرب وقت، وإن الانتخابات الرئاسية لو تتم، ويتنافس فيها عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، فإن الرئيس الراهن سيحرز 27 بالمائة من الأصوات، فيما ينال هنية 59 بالمائة. وفي انتخابات برلمانية لو تتم، ستحصل قائمة «حماس» على 41 بالمائة من المقاعد وقائمة «فتح» الموالية للرئيس عباس ستنال 30 بالمائة.
ولما هتف أخيرا المتظاهرون قرب مقر الرئاسة في رام الله، مطالبين برحيل عباس ومن معه، تعبيرا عن غضب واسع من قتل نزار بنات، فإنهم لم يكونوا يستجيبون لنداء أكثر من ألفي مثقف وأكاديمي وكاتب فلسطيني في الوطن والشتات، قبل أسبوعين، دعوا فيه إلى استقالة الرئيس عباس أو إقالته، وإعادة بناء منظمة التحرير، وإنما كانوا يلبون نداء ضاغطا تقتضيه مفاعيل الوضع الفلسطيني العام، سيما وأن أداء رئاسة عباس وحواشيها، عند الهبة الشعبية في القدس، ثم في أثناء الحرب العدوانية على قطاع غزة، كان مخجلا. وسيما أيضا وأيضا أن الإخفاق كان فادحا في البناء على الحالة الفلسطينية الواحدة في الغضون، من أجل إنهاء الانقسام المخزي إياه، والذهاب إلى مرحلة جديدة، أداء وروحية. ثم دلت صفقة لقاحات مع الاحتلال على أن الفساد ما زال باهظا في دواليب صناعة القرار في السلطة. وتاليا، جاءت جريمة قتل نزار بنات في مسار تآكل الشرعيات واهتراء المؤسسة وضعف الفاعلية وفساد الأداء. وعلى وفرة ما ينكشف من بؤس أسود في الحالة الفلسطينية هذه، في تراكم هذه المتواليات في أسابيع قليلة، إلا أنه ما زال غير منظور ما قد يطرأ إذا ما طفح الكيل الفلسطيني أكثر وأكثر.