شوف تشوف

الرأيالرئيسية

الكذب في السياسة

طلب جار لجحا يوما استعارة حماره لقضاء حوائج له، قال: إنه ليس في الزريبة. ولم يكد جحا ينتهي من كلامه، حتى ارتج المكان بنهيق منكر للحمار. التفت الجار إلى جحا، وقال: ماذا تقول؟ قال جحا: أتكذبني وتصدق حمارا؟ فهذه القصة تروي دجل السياسيين. وجحا أصبح مثلا شعبيا رائجا، لأنه يعبر بصدق وعفوية عن الواقع.

وجاء في المثل: كذب المنجمون ولو صدقوا، ومنجمو الوقت الحاضر هم السياسيون. فهم يقربون البعيد ويبعدون القريب فلا يعول عليهم. ومن صدق سياسيا فلا يلومن إلا نفسه. ومن عاش في ظل نظام شمولي فلم يهرب منه، فلا يلومن إلا نفسه. ومن وقع في مشكلة فلا يلومن إلا نفسه.

وهذا ينطبق على العرب الذين يفشلون في عقد أي اجتماع هام، فاللوم عليهم وعليهم أن لا يلوموا أمريكا وإسرائيل. فهذه ثلاث قواعد ذهبية ومريحة في الحياة. ومن مدينة القامشلي، حيث لعلعت النار ودلف العشرات إلى القبور والمئات إلى المشافي، أذكر قصة حسن مصروع، والرجل لم يكن مصروعا، ولكن الناس اتفقوا على إعطائه هذا اللقب، ومات الرجل، رحمه الله، فقد دخل يوما على القاضي لمظلمة له، فأشعل عود ثقاب، ثم بدأ يبحث تحت أقدام القاضي، قال له: عم تبحث؟ قال: عن العدالة.

وعندما يخرج المسؤول السياسي في بلد عربي أو غير عربي يجهز نفسه أولا للكذب، ولكن الصحافة في الغرب تحرجه، وفي العالم العربي لا تستطيع. ومجلة «دير شبيغل» الألمانية وصفت القذافي قبل أن يقذف إلى مزابل التاريخ بأنه تحول من شقي إلى مثالي، لأنه دفع الجزية عن يد وكان من الصاغرين في قضية لوكربي المشهورة.. وامتدحه يوما كاتب عربي مرموق في جريدة مرموقة، فوصفه بأنه سيد الفنانين بالقدرة على البقاء على ظهر العباد إلى يوم الدين..

ومن بعده سمعنا أساطير صرح بها ابنه ولي العهد، أنه سيحل مشكلة اختفاء موسى الصدر والديموقراطية معا، والصدر يعتبر لغز اختفائه إلى اليوم سرا دفينا، حيث دخل مغارة القذافي ولم يخرج إلى اليوم. فمن نصدق؟ وقرأت عن مسؤول في بلد عربي ارتجت الأرض عنده بمظاهرات وقتلى، فخرج على الناس يقول: ليس عندنا مشكلة. وهو يعرف أنه يكذب، وهو يعرف أن الناس تعرف أنه يكذب. وهذا هو سبب أن الناس عندنا يفتحون محطة لندن للاستماع إلى الأخبار، ولا يصدقون إذاعتنا ولو عن درجات الحرارة. وليس معنى هذا أن إذاعة لندن لا تكذب، ولكنها أدهى في ترويج الكذب بطريقة مدروسة.

ونحن نعلم من الكاريكاتير أنه الشخص نفسه مع تحوير في القياسات، بحيث تبرز معالم الشخصية على نحو مضحك من تكبير للذقن أو الأنف، وإذاعة لندن وسواها تفعل مثل هذا، فهي تروي الخبر، ولكنه بحجم كاريكاتير حسبما يخدم غرض الإذاعة. والميديا خطيرة، فهي تمط الأقزام فيصبحوا عمالقة. ويظن من يدير الحوارات في الفضائيات أنه أفهم ممن استقدم من المفكرين وهو تافه.

وينقل عن كاترين دي ميديشي الإيطالية، التي حكم أولادها عرش فرنسا، أنها كانت توجه من حولها إلى الكذب بدقة وحرص وإصرار، إلى درجة أن يصدق المرء نفسه. فمن يكذب وهو مرتج لا يصدقه أحد وينكشف كذبه، ولكن من يكذب بإصرار وعزيمة يصدقه الكثير. بل يصل الأمر أن يصدق الإنسان أكاذيبه بالذات. وجاء في تعبير القرآن: انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون. وهي قصة تذكر بقصة أشعب الأحمق مع الأطفال، حينما أراد صرفهم عنه، فكانوا إذا تحرشوا به قال لهم: هناك وليمة. فيسرع الأطفال باتجاه الوليمة، وعندما كرر هذا الأمر، خبط رأسه بيده، وقال مخاطبا نفسه: يا أشعب وما يدريك فلعل وليمة موجودة حقا، ثم انطلق يلحق الأطفال لا يلوي على شيء باتجاه الوليمة.

وفي كتاب «القوة» لروبرت غرين تحدث عن علم كامل اسمه التدجيل، وكيف يخلق الإنسان طقوسا بخمس درجات بالحيلة والمكر والكذب. وفي قناة «ديسكفري» أكدوا هذه الحقيقة وهي أن السياسيين من أكذب خلق الله، وعندما حوكم كلينتون لم يحاكم لأن لوينسكي مارست معه الحب بطريقة شاذة، بل لأنه كذب فجمع الفسوق فوق الكذب. ولكنه ضيف شرف في كثير من الأمكنة في العالم هذه الأيام، مع أنه رسب في الامتحان الأخلاقي.

واجتمعت أنا شخصيا بكذاب أشر من هذا النوع كان مدرسة في الكذب، فتعجبت من أمره، ولكن يبدو أن الوسط يساعد على نمو أمثال هذه الطفيليات. ومن يكشف هذه الجراثيم هو الوسط المعقم. ونحن نعرف في الطب أن الدوران الداخلي نظيف، فلا توجد جرثومة واحدة في مجرى الدم، ويعلن الجسم عن وجوده باختلاجات خطيرة وارتفاع الحرارة، أما جراثيم البراز فهي بالملايين، ولكن حيل بينها وبين الوسط الداخلي المعقم بجدار، فإذا انثقبت الزائدة الدودية هددت الحياة. والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه، والذي خبث لا يخرج إلا نكدا، كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون.

خالص جلبي

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى