شوف تشوف

الرأي

الكاتب الإسرائيلي ومقدرة مواجهة الذات

أنطوان شلحت

يفرض موت الكاتب الإسرائيلي يهوشواع كيناز (1937- 2020)، قبل أيام، بفيروس كورونا، أن نتوقف عنده، سيما في ضوء محاولات تأطيره خارج حدود «الإجماع القومي»، كما انعكس ذلك في نصوصه الروائية ومقابلاته الصحفية على ندرتها.
ضمن هذا التأطير، سارعت صحيفة «هآرتس» إلى استعادة إحدى تلك المقابلات النادرة التي أدلى بها إلى مراسلتها عام 2008، وقال فيها إنه غير مؤمن بالسردية التاريخية الصهيونية، ولكنه في الوقت عينه أكد أنه مضطر إلى التعايش معها. وأشار إلى أنه ليس صهيونيا، كون الصهيوني هو الذي يتملكه الإيمان بأن الدولة اليهودية يمكنها أن تجد حلا لمشكلة معاداة السامية، فيما هو لا يعتقد بذلك. وشدد على أن هذا لا يعني وجوب تفكيك تلك الدولة، بل يتعين على الصهاينة التوصل إلى تفاهم جيد ومريح مع الفلسطينيين. وفي حال «خفوت الجنون بين الجانبين»، بتعبيره، يمكنهما الوصول إلى مثل هذا المفترق. واستطرد بأنه معني بقيام دولتين لشعبين، لا بسبب موضوع الأغلبية اليهودية، وإنما لرغبته بأن تكون إسرائيل دولة تصبح فيها العبرية هي اللغة المهيمنة، وتغدو الثقافة العبرية فيها متطورة أكثر من الثقافات الأخرى.
لعل أشهر روايات كيناز هي «تسلل أفراد خلسة» (1986)، التي طرح فيها موضوع ما تُسمى «بوتقة الصهر» في الجيش الإسرائيلي، واستخدم فيها تقنية الوقوف في الوسط الفاصل بين القارئ والمؤلف، بواسطة شخصية متلصصة، وواجه فيها شروخا عدة في مجتمع دولة الاحتلال على غرار الشرخ بين الأشكنازيين والشرقيين، فهي تنمذج على أن خروجه على «الإجماع القومي» لم ينطو على أي مس بأهم المسلمات، وعلى أن في الاضطرار إلى التعايش مع السردية التاريخية الصهيونية يكمن جانب من الاختيار. فمثلا عندما تعين عليه مواجهة الجيش الإسرائيلي نفسه، لا يبدو مستعدا لفعل ذلك بالطريقة نفسها التي يواجه فيها الشرخ السالف، فالجيش عند كيناز هو تماما، بحسب الشيفرة الصهيونية: «إنه كلنا». ولذا يُكره نفسه، في نهاية الرواية، على كل شيء، بواسطة «الجماعة».
وفي ما يخص العلاقة مع الفلسطيني، يصل الجنود في رواية كيناز إلى منطقة رملية فيكتشفون «المكبوت العائد»: قرية فلسطينية مدفونة في الرمال، لا يظهر منها سوى طرفها القصي، وتحته ما يشبه القبر المفتوح قليلا، فيبدأ الحوار في ما بينهم بهذا الخصوص. وفي نهاية الأمر، يلخص أحدهم القضية بصورة جدلية، تبدأ بـ«ينبغي أن نشفق عليهم»، وتنتهي بـ«أكثر من هذا، ينبغي أن نشفق على حالنا»، لأنه ذات يوم سيأتي العرب للقتال لأجل هذا المكبوت؛ «والذي يكون على استعداد للتضحية من أجل ذلك بكل شيء، لتكون لديه احتمالات الانتصار والبقاء هنا».
ويواصل الراوي الذي يمثل موقف المؤلف، قائلا: «الأشجار الضامرة، الحالمة، الواقفة وهي مغطاة بالرمل حتى وسطها، ترضع من أعماق غامضة في أرض مختنقة ببقية حيويتها التي تنفد، وثمراتها المصابة التي ترسل إلينا وساوس الموت، كانت هناك مثل لغز غير محلول، مزعج. زمن الاستراحة يشرف على الانتهاء. وكما لو بأمر داخلي، مستتر، نهضنا مثل رجل واحد، اقتربنا من حافة البئر، فككنا أزرار بناطيلنا وبُلنا فيها».
فعل التبويل على الحطام هنا إنما يحيل إلى الاستخفاف بتاريخ الأرض، التاريخ الذي يتنفس تحت الأقدام. ومثلما أشار أحد النقاد الراديكاليين، فالسيرة الذاتية للإسرائيلي، كما تظهر عند كيناز، مركبة من علاقة كسر أي تعاقب لغير اليهودي في كل ما يتعلق بالأرض من جهة، ومن جهة أخرى من خلال توكيد تعاقب علاقته مع ميثولوجيا التوراة، كون «حقيقة» الإسرائيلي مناطة بإلغاء رواية الآخر، الفلسطيني، ودحضها، أو بتولي مهمة تحليلها، بفصل الكلام.
يقدم لنا كيناز إذًا صورة يمكن القول إنها عامة بالنسبة إلى جيله، بشأن كاتب يظل خروجه على مسلمات الإجماع معولا، قبل أي شيء، على ما يمتلكه من مقدرة التفوق على نفسه ومواجهة الذات، وهي مقدرة بقيت في حدودها الدنيا، فرأت ما تريد وحسب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى