القــــرآن وعلوم العصر
بقلم: الدكتور خالص جلبي
لا يوجد كتاب اعتنى بالتاريخ وسننه واعتبره مصدرا للمعرفة مثل القرآن، ولا يوجد كتاب في تاريخ الجنس البشري أكد على مفهوم القانون وسنة الله في خلقه كما فعل القرآن، ولا يوجد كتاب وقف عند حوادث تاريخية بعينها، يتكئ عليها ويستفيد، مثلما جاء في القرآن. ولا توجد أمة لم تستفد من كل هذه الثروة العقلية كما فعل المسلمون، في استعصاء عقلي غير مفهوم وغير مبرر، حركها من خانة الدول العظمى والمركزية إلى خانة دول التخلف والمحيط والأطراف، في لغز يحتاج فك طلاسمه إلى بحث تاريخي عقلاني موسع لاكتشاف بدايات الخلل.
ثلاثة مفاهيم تأسيسية:
فهذه ثلاثة مفاهيم تأسيسية في جدلية القرآن والتاريخ:
ـ (1) اعتبر القرآن التاريخ ليس مجرد حوادث تائهة طائشة عشوائية لا يربطها خيط ولا ينتظمها قانون، بل نظر إلى التاريخ أنه تدفق وصيرورة، تمسك حركته مفاصل سننية، وتنير طريقه واتجاهه نواظم كونية غائية عظمى.
ـ (2) اعتبر القرآن التاريخ مصدرا للمعرفة، تماما مثل الطبيعة والنفس، فهذه الحقول الأولية هي كلمات الله الأساسية، والنسخة الأصلية من كلمات الله، التي لا تقبل التزوير والتحريف والتبديل والتأويل المضطرب والتفسير اللاعقلاني؛ فصخرة أو جبل، شجرة أو نهر، هرم فرعوني أم سور الصين، نقش مسماري أم هيكل عظمي، أدل على نفسه بنفسه من أي نص كتب عنه، مهما كان مصدره.
ـ (3) وقف القرآن أمام أحداث تاريخية بعينها، يعتمدها كمقارنة؛ بين ما يولد من بطون الأيام الحبالى، وما بين الحق الذي جاء به. هذا العرض المقارن يفتح الطريق أمام علوم قرآنية قد قصر العالم الإسلامي حتى اليوم في تأسيسها، لأنه شخر عبر القرون، وانفك عن الواقع، فكما رسخت ورست واستوت علوم من أمثال القراءات والتجويد والأحكام والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، فإن الطريق لم تعبد بعد أمام دراسات من طراز الدراسات التاريخية القرآنية المقارنة، التي سنشرح طرفا من طبيعتها في نماذج قادمة. وهكذا فإن ينابيع القرآن المعرفية لن تنضب في شق الطريق إلى فضاءات معرفية متجددة.
التاريخ يتحرك وفق قوانين نوعية
يتحرك التاريخ وفق قوانين نوعية، والتاريخ مصدر للمعرفة، والتاريخ دراسة مقارنة؛ فهذه محطات عقلية تأسيسية للمعرفة ومفاتيح كبرى لحركة تجديد العقل الإسلامي، وإضاءة القرآن على نحو غير متوقع. هذا التوجه في القرآن كمفتاح لبناء العقل السنني، وتوليد العقل الاستدلالي، وتهميش وتحييد الأسطوري والخارق والخلاب، ودخول الباب لفهم أحداث التاريخ، وفق قوانين تحمل إمكانية التكرار في سياق كوني منتظم.
والآن ثمة إشارات قرآنية تشكل مفاتيح لفهم حركة التاريخ الإنساني بانعطافاتها المصيرية، في مثل قصة يوسف في القرآن، والعصر الذي عاش فيه، ولماذا استخدم القرآن لفظ «الملك» ولم يستخدم لفظ «فرعون»، ومن مثل الهزيمة العسكرية الساحقة التي مني به الفرس، في مطلع الربع الأول من القرن السابع الميلادي، في سلسلة تطاحن عسكري، من نوع الحروب العالمية في العصر القديم، يجعلنا نفهم لماذا، وفي هذا الوقت بالذات، وفي هذا المكان بالتحديد، في فك أسرار التساؤلات العقلية الخمسة لماذا؟ كيف؟ متى؟ أين؟ ومن؟
الدقة في التقدير الميتافيزيقي التاريخي
لماذا يبزغ عصر الإسلام في هذا الوقت والمكان على وجه الدقة؟ في تقدير ميتافيزيقي يجلي التاريخ بعضا من أسراره بعد حين، فلو انبثق الإسلام قبل قرن من ولادته، لعاصر قوى مختلفة وإمبراطوريات متماسكة نسبيا. وبذلك لا نستطيع أن نفهم شروق شمس الإسلام بدون فهم تاريخي «راداري» معمق، يعرف أن خروج الإسلام في هذه اللحظات التاريخية، سوف يواجه إمبراطوريات محطمة واهنة، استنزفتها حروب مدمرة، فقام الإسلام يكنس بقايا حطام الإمبراطوريتين في الشرق الأوسط، أكثر منه مواجهة هذه القوى.
وبذلك لا يمكن فهم مثل هذه الأمور بدون التشبع بالوعي التاريخي. وإن العرض الذي قام به المؤرخ البريطاني «جون آرنولد توينبي»، في كتابه «تاريخ البشرية» يعطي تصورا عن الوضع، بحيث يمكن فهم دلالة الآية القرآنية «الله أعلم حيث يجعل رسالته»، فهذه التساؤلات تفتح الطريق لإدراك انعطافات التاريخ المصيرية.
في مواجهة أعظم حضارة في العصر القديم
تشكل قصة موسى عليه السلام نموذجا مختلفا، وهو يواجه أعظم حضارة في عصره: أمريكا العصر القديم، وهو واضح التصور ودقيق العبارات مع فرعون، أنه لا يريد تغيير المجتمع المصري أو التبشير فيه، وكان يمكنه أن يفعل ذلك، فهو صاحب رسالة.
كانت كلماته واضحة وعباراته مقتضبة «أن أرسل معي بني إسرائيل»، ليس لأن سدس الشعب المصري الذي هو كتلة الشعب العبراني، في أسفل قاع المجتمع يؤدي دور الآلة العضلية. أقول ليس لأن موسى عليه السلام يتوقع منه إذا خرج به من أرض مصر، سيكون ذلك الشعب وتلك الأمة التي يبني عليها الآمال. إن موسى أوعى من أن يقع في مثل هذا الفخ، مع جيل اعتاد ضرب السياط على ظهره والاعتياد على أخلاق العبودية.
إن هدف موسى لن يظهر واضحا في مصر، بل سيكشف عنه النقاب بعد العبور، ومشاكله من صناعة عجل الذهب، والتعدي على هارون أخيه، وارتكاب الفواحش، والحنين الدائم إلى رائحة البصل والثوم المصري، فجهازهم الهضمي لم يتعود الطعام الممتلئ بالبروتين والعسل «المنّ السلوى»، بل ما زالت الأمعاء معتادة على الخضروات المصرية مثل أخلاق الأرانب تماما، كما لم ينفعهم سيل المعجزات التسع في مصر، ولا تشقق الصخر في الصحراء فيخرج منه الماء، أو تحريك السحب والغمام تظللهم من حر شمس صحراوية لاهبة.
كان موسى ينتظر أن يدفن هذا الجيل في الصحراء، كي يخرج من ذراريهم خلال أربعين سنة جيل صحراوي جديد خشن، لا يعرف إلا لفح الشمس، والهواء الطلق، واليد العاملة، والحرية والكرامة، في نموذج جديد مختلف جدا عن جيل العبودية في مصر.
كان جيل العبور إذن ليس الأمة التي أرادها موسى، بل كانت المادة الخام «في عملية استنساخ» سوف تفرز الجيل الجديد، الذي لن يعاصره موسى، بل يشهد تهيئته فقط، ليتحرك به يشوع باتجاه الأرض المقدسة. وتبقى في النهاية قصة الطوفان الذي يدشن لأحداث كونية مفزعة من حجم جراحات مناخية لطوفان لا يبقي ولا يذر، في موت جماعي بالغرق لأمم كاملة، كي يحمل قبطان العالم الجديد النبي نوح عليه السلام البذور الصالحة من بقايا العالم القديم المهدم، كي يبني عالما جديدا مختلفا.
هل الدُسر هي المسامير؟
استوقفتني في سورة «القمر» منذ فترة طويلة لفظة «دُسر»، فعندما كنت أشتغل بحفظ القرآن، أفادتني بعض كتب التفسير أنها المسامير المعدنية، فنوح عليه السلام نجار فهو يهيء السفينة لينجو من الغرق الأعظم، بألواح من خشب ومسامير وقار (جودرون بالتعبير المغربي)، ولكن المسامير تعني اكتشاف الحديد وتصنيعه، وهذه لم تعرفها الحضارة الفرعونية مثلا إلا في القرن الثامن قبل الميلاد، والتاريخ لا يمدنا بأحداث كونية من هذا الحجم في الألف الأولى قبل الميلاد، فالحضارات التي تم إماطة اللثام عن بقايا جثثها، أظهرت الحضارة الفرعونية والسومرية وهي تسحب في عمق الزمن إلى حوالي ستة آلاف سنة، أي الألف الرابعة قبل الميلاد، وبقايا الفراعنة لم تقدم لنا مادة في طوفان من حجم كوني ضرب الحضارة المصرية، ولكن ملاحم وأساطير بلاد الرافدين نقلت بشكل واضح ومكرر، عن ظاهرة طوفان كوني مريع من حجم فلكي حدث في المنطقة، فهل كان الطوفان يا ترى فقط في منطقة محددة يجب التنقيب عن حدودها؟
ظهر هذا واضحا في ملحمة جلجامش التي كشف النقاب عنها البحث الأركيولوجي من مكتبة نبوخذ نصر الآشوري، في بقايا مدينة نينوى، مدينة الموصل العراقية الحالية، حيث ظهرت مكتبة عملاقة صفحاتها ألواح من الطين قد حفر عليها ما يشبه عمل المسامير، مما جعلها تأخذ لقب الكتابة المسمارية، المكتبة الآشورية هذه أشارت بشكل واضح إلى طوفان أهلك الحرث والزرع والنسل، ولم يُبق على شيء في منطقة بلاد الرافدين.
كان عويل الرياح كأنه صراخ المرأة الحبلى وهي تضع:
منذ الألف الثالثة قبل الميلاد استقرت في الوعي الجماعي الإنساني، قصة طوفان مهول عم المعمورة. تم الكشف عن هذا في حفريات نينوى في منتصف القرن التاسع عشر، على يد شاب إنجليزي اسمه «أوستن هنري لايارد AUSTIN HENRY LAYARD»، كان في طريقه في رحلة سياحية باتجاه سيلان عام 1839م، فأثارت انتباهه حفائر نينوى «الموصل في شمال العراق الحالي»، مما جعله يصل لاحقا إلى الكشف عن تراث أدبي حافل من مكتبة الملك «نبوخذ نصر» باللغة الآشورية، فيه إشارة إلى قصة الطوفان، وكان «هنري رولنسون» الذي كان يعمل ملحقا عسكريا في السفارة البريطانية في إيران، ثم المقيمية البريطانية في بغداد لاحقا، قد فك أسرار اللغة الفارسية القديمة من النقوشات التي حفرها الملك الفارسي «دارا الأول» على حجر (بهستون) في كرمان شاه، ويشبه كشف حجر رشيد في إثارته وأهميته، الذي فك ألغازه «شامبليون» الفرنسي في جهد استغرق 20 عاما، واخترق الحضارة الفرعونية فأنطقها وبعثها إلى الحياة تروي سحر القرون.
رولنسون فعل الشيء نفسه مع حجر دارا بجهد استغرق 12 عاما، اضطره أحيانا إلى أن يشد نفسه بالحبال، ويتدلى مثل القرود على ارتفاع 300 قدم، معرضا نفسه لأشد الأخطار، في نهم علمي لا يعرف الإشباع، دفعه إلى متابعة عمله في العراق، ليميط اللثام عن القصة الكاملة للطوفان، من خلال مكتبة مكونة من خمسة وعشرين ألف لوح من الطين المحروق قد نقشت فيها حروف غريبة، بما يشبه وخزات المسمار، مما جعلهم يسمونها اللغة المسمارية.
ومما جاء في اللوح الحادي عشر من المكتبة الآشورية وصف رهيب للطوفان: «هبت الرياح ستة أيام وست ليال، طغى السيل والعاصفة والطوفان على العالم. ثار السيل والطوفان معا كالحشود المتحاربة. وعندما أشرق اليوم السابع انحسرت عاصفة الجنوب، هدأ البحر وسكن الطوفان، نظرت إلى سطح العالم وقد ران عليه الصمت. أصبح البشر كلهم طينا. كان سطح البحر يمتد مسطحا كسقف البيت، فتحت كوة فسقط النور على وجهي، عندئذ انحنيت طويلا، جلست وبكيت، جرت الدموع على وجهي، إذ كان الماء طاغيا في جميع الأنحاء. عبثا تطلعت بحثا عن الأرض، ولكن على مبعدة أربعة عشر فرسخا ظهر جبل، وهناك رست السفينة، ثبتت السفينة على جبل نيصير، ثبتت ولم تتزحزح».
ولعل اليهود من سبي بابل حملوا معهم هذه الأساطير، فجاء ذكرها بشكل واضح في العهد القديم، باختلاف أن المياه التي تدفقت لم تكن أسبوعا، على الرواية الكلدانية للطوفان، بل دام تدفق المياه 40 يوما، وهكذا تم تسجيل طوفان مرعب في الذاكرة الجماعية للجنس البشري.
رواية العهد القديم
إذا كان الطوفان في ملحمة جلجامش قد استغرق أسبوعا من تدفق المياه بدون توقف، فهو في العهد القديم 40 يوما، وبالطبع لا يمكن مقارنة الدقة والبلاغة الموجودة في القرآن مع النص التوراتي.