شوف تشوف

فسحة الصيف

القــــرآن وصناعة التاريخ

بقلم: الدكتور خالص جلبي

 

ينقل عن الفيلسوف الهندي (محمد إقبال) أنه كان يقرأ القرآن كل صباح؛ كما أفعل أنا في مونتريال من كندا كل يوم، أو حين أصلي به فأقرأه دوريا. كان والده يسأله: ماذا تقرأ يا بني؟ وكان إقبال يرد: إنه القرآن يا والدي! استمر السؤال والجواب أياما عديدة، حتى تفطن إقبال إلى ما خلف السؤال، يا أبت تسألني كل يوم وأجيبك بالجواب نفسه، فماذا ترمي من سؤالك المكرر، مع أنك أخذت جوابه مكررا؟ فقال له والده حينها: يا بني إنما أردت أن أقول لك اقرأ القرآن وكأنه ينزل عليك!

يقول إقبال حينها بدأت مفاتيح القرآن في يدي تعينني في فتح مغاليق كل شيء. في القرآن، آية تفيد هذا الاتجاه؛ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء (سورة النحل، الآية 89). وقد استفاد إقبال من هذا التوجيه فقال بعدها: قرأت القرآن صدقا وعدلا.

من يريد أن يفهم أثر القرآن في كتابات إقبال، فليراجع كتاب «تجديد التفكير الديني». أنا شخصيا قرأت هذا الكتاب أكثر من عشر مرات، وهو كنز من كنوز المعرفة. ومما ينقل عن الرجل مقابلته لموسوليني، طاغية إيطاليا الفاشية، وأنه قال إن ذخائر القرآن باقية وما عندكم يزول! ونور القرآن لم يستفد منه الناس إلا قليلا، وسوف يبقى القرآن يمد الجنس البشري بالفكر الإيجابي وبالحلول، وهو يذكر بقصة تحلل العناصر المشعة، حيث تبقى تمد بالطاقة دهرا طويلا.

وأجمل ما جاء في الكتاب فكرة مصادر المعرفة؛ حين أرجعها إلى ثلاثة: الطبيعة والتاريخ وعلم النفس، مشيرا في الثالث إلى التصوف (رياضة الباطن)، ومنها فكرته أيضا بأن الوحي له مصادر متعددة، منها الوحي للنحل، والوحي لأم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين… وهكذا فالرجل يرى أن ظاهرة الوحي متجددة، وإحدى صورها الاتصال مع الأرواح النيرة من رسل وأنبياء، فيوحي بإذنه ما يشاء. ومنها فكرته أيضا عن ختم النبوة، بأنها التجلي الأعظم باعتماد العقل الاستدلالي، بعد مرحلة المعجزات وكسر العقل المنطقي.

يقول الرجل إن بعثة محمد (ص) كانت مرحلة انتقالية من عهد النبوات والمعجزات إلى العهد العقلاني، فذكرها القرآن ولكنه لم يعتمدها، بل انتقل إلى بناء العقل الجديد فوجب تأسيسه واعتماده وإلغاء عصر الخوارق والمعجزات، وهو بهذا يلتقي أيضا مع الفيلسوف الهولندي سبينوزا، الذي رأى في المعجزات ليس فقط قتلا للعقل، بل هو أمر أقرب إلى الإلحاد.

وقفز إقبال إلى مفهوم عجيب يحل به إشكالات كثيرة عن الخلود في النار، وهنا روعة الرجل، فهو يهتدي بنور القرآن حين يرى فكرة أحقابا عن الظالمين وفترة عقوبتهم وآية سورة «هود»، ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك. وفكرة عيسى مع المنحرفين إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم. وهي كما تبدو أفكار عملاقة سباقة، مما جعل مثل مالك بن نبي يقول عنه وإنتاجه الفذ إنه يذكر بفكرة النسغ والطعم والشجرة؛ فحين نضع غصنا من شجرة مثمرة نطعمها على شجرة أخرى مغايرة، فإن هذا الغصن ينمو فيعطي ثماره الخاصة به، مع أنه يتغذى من شجرة مختلفة، كذلك فعل إقبال بنهله من الثقافة الأوروبية في أبدع صورها وأرقاها، ليخرج في النهاية شرابا مختلفا رحيقا مسلما خالصا.

منه نفهم أيضا ذلك الاستقبال المدهش للموت، قال إقبال وهو يواجه الموت: أنا مسلم أنا عائد إلى رب رحيم يتولاني برحمته وهو خير. وهو بهذا يكسر مفاهيم راسخة عن حفلة تعذيب يقوم بها منكر ونكير، وكأن القبر أحد فروع مخابرات النظام الأسدي، كما رأينا نهاية التعساء وهم يساقون إلى حفرة في حي التضامن في دمشق، فيقتلون معصوبي الأعين، مقيدي المعاصم، ولا يدرون أنهم في طريقهم إلى لحظاتهم الأخيرة من الحياة.

هذه قصة إقبال مع القرآن، أما القصة الثانية فهي من المغني والموسيقار البريطاني كات ستيفنس (Cat Stevens)، فهو سقط في وهدة المرض حتى كاد أن يفارق الحياة، ثم شاءت العناية الربانية أن تمنحه الحياة من جديد، هنا وقعت بين يديه نسخة من القرآن، ظنها في الأول أنها كتاب مخطوط بقلم كاتب!

قلبه فلم يجد المؤلف؛ فشده الكتاب ليعرف محتواه. هنا تحدث الصدمة ويتدفق النور من ثنايا الأسطر، وهي تجربة يذكرها القرآن بأنهم يخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا. أنا شخصيا كنت آوي إلى مسجد ما بعد الجسرين في مدينتي القامشلي، حيث يتفرع نهر جغجغ إلى فرعين يتجاوزه جسران، فكنت أصلي العشاء وأستمع إلى الإمام بعد أن يفرغ من صلاة العشاء، فيقرأ سورة تبارك الذي بيده الملك، وأنا أحلق معه في السماوات العلى فلا ينتهي إلا ودموعي بللت وجنتي؛ فالقرآن في الواقع هو قرآنان، الأول يبحث عن القلوب المستعدة فيغذيها حبا وحنانا، وقلوب جرز جفت وانقطعت عن الحياة وبهجتها والرحمة المهداة.

هكذا فعل بي القرآن حين جذبني إليه وما زال. وهذا يذكرني بقصة المسيح والأرض والزرع، حين قال

ها هو الزارع قد خرج ليزرع، فبينما هو في الطريق إذ سقط بعض منها فجاءت الطير فخطفته، وآخر وقع بين الشوك فاختنق، وآخر سقط في الأرض فجاءت الشمس فاحترق، وآخر سقط في الأرض الطيبة فأنبت ستين وثمانين ومائة. قال الحواريون لا نفهم كثيرا مما تقول؟ كان المعلم يحدثهم دوما بأمثال، ولم يكن يحدثهم إلا بأمثال. قال: كم مرة أقول لكم ولا تفهمون؟ أما الذي سقط فخطفه الطير فهو الشيطان استلب لبه، وأما الذي سقط فاحترق فهو من احترق في نار المحنة، وأما الذي سقط في الشوك فاختنق فهي شهوات العالم وغروره تخطف القلب، وأما الذي سقط في الأرض الطيبة فهي القلوب التي تستقبل. وفي هذا يقول القرآن إن قلبين يستقبلان القرآن، فأما الأول فزادته رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم فاسقون، وأما الصنف الثاني فإذا سمع ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما سمعوا وقالوا آمنا.

نأتي إلى قصة ثالثة من روايات القرآن، وهي قصة غريبة عن أستاذ الرياضيات الأمريكي «جيفري لانغ»، حيث كان يراوده حلم عجيب أنه يصلي خلف إمام بهيئة معينة في مسجد معين، حتى جاءته نسخة من القرآن فبدأ يقرأ فدهش وتعجب، ثم ساقته الأقدار أن يفاجأ أنه يرى المنام حقيقة فاعتنق الإسلام، وهي من أعاجيب العالم الموازي الذي لا نحيط به علما، وهو ما يتحدث به القرآن عن عوالم لا نحيط بها علما. ومنه قالت الآية الذين يؤمنون بالغيب.

أستاذ الرياضيات هذا كتب ثلاثة كتب ينصح باقتنائها وقراءتها على مهل، وهي في مكتبتي بثلاثة عناوين (الصراع من أجل الإيمان ـ حتى الملائكة تسأل؟ ـ ضياع ديني)، ويتحدث الرجل عن الإسلام وأثره في تحسين علاقته بأبويه، مع أنه كان شاهدا على أبوه وهو يضرب أمه، وهكذا فالقرآن هو نور ورحمة وشفاء لما في الصدور.

ومما يروى عن «روجيه غارودي» أن سبب اعتناقه الإسلام كان منظرا من جنود جزائريين يرفضون إطلاق النار على أناس بفعل الأوامر، وهو ما جاء في أول سورة نزلت من سورة «العلق»، أن الطاغية يعالج بعدم طاعته وليس بقتله.

ومن قصص القرآن أيضا من سورة «النجم» عن تجربة سيد قطب، وكيف وصل إلى تلك الحالة النفسية من السكينة والاستسلام، وهو يصل آخر سورة «النجم» التي تقول: فاسجدوا لله واعبدوا، وكيف أنه في رحلة العودة من أمريكا كيف وقفت امرأة لا تعرف كلمة من القرآن وهي تصغي للقرآن فتسحر من موسيقاه، وهو يذكر بالجن الذين سمعوا القرآن، فقالوا انصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين.

أنا شخصيا عشت تجربة في سجون البعثيين العبثيين، حين وصلت إلى قوله تعالى من سورة «الزخرف»: أم أبرموا فإنا مبرمون أم يحسبون أن لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى ورسلنا لديهم يكتبون. حينها نمت وإذا أمامي رجل يصلي بنا، ثم يقف خاشعا ويبتهل إلى الله، وتأتي عبارة عجيبة منه (يا الله دخيلك..)، كلمة دخيلك في اللهجة السورية هي تلك الصورة من التوسل الخاشع.

في اليوم التالي وكان قد مضى علي في الانفرادية، وهي قبر بحق بمساحة مترين على متر، ومن كان معه دورة مياه في الزنزانة فهو من المحظوظين، فلا يطلب الحرس مع كل وقت لقضاء الحاجة. قضيت 54 يوما في الانفرادية، ومع ذلك الدعاء الخاشع خرجت إلى (الإجماعية) وهي رحمة ونقمة، لأنك قد تجتمع بأناس لا تفهمهم ولا يفهمونك. بعدها بستة أيام تم إطلاق سراحي بعد شهرين، وكانت زوجتي حامل بابنتي عفراء في شهرها السابع، وكانت قد ضاعت علي أيضا امتحانات كلية الشريعة التي كنت أقدمها في الدورة الثانية التكميلية، حيث أقدم الطب في الدورة الأولى، وأيضا تمت مطاردتي في أحد امتحانات الطب، فضاعت بدورها، وهكذا كانت حياتي بين القرآن والامتحانات ومطاردة المخابرات البعثية العبثية.

هنا أشير إلى تجربتي في الحفظ، وأن آخر سورة ختمت بها حفظ القرآن كانت سورة «يونس» ولم يكن في نيتي حفظ القرآن، بدأت بسورة «مريم» تشجيعا من والدتي، ثم بدأت أحفظ على غير ترتيب فقد شدني القرآن خاصة مقاطع كنا نسمعها من الإمام في الصلاة، مثل آخر سورة «النحل»، «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة»، ومن سورة «فصلت»، «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا»، ومنها آخر سورة «التوبة»، «أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون». أو آخر سورة «البقرة»، «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله». أو آخر سورة «آل عمران»، «إن في اختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب». وهي مقاطع جميلة أنصح بها من يريد أن يستضيء بنور القرآن، أن يحفظها ويتلوها في صلواته.

بقي أن نشير في نهاية هذه المقالة إلى أن فتنة القرآن كبيرة، فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا، فمن المغرب انبرى أحدهم يحمل اسم نبيين (مسيح + محمد انتبه مسيّح بالشدة) يقول إن القرآن كذب وإن القراءات زادت على 1370 قراءة، وإن سورة «الأحزاب» كانت مثل سورة «البقرة» فلم يبق منها إلا 75 آية! ومن العراق خرج آخر اسمه القبانجي يزعم أن ليس ثمة إعجاز في القرآن، وأن مستوى النبوة يمكن أن يصل إليها كل واحد بقدر من الطاقة الروحية، ومن مصر تائه آخر اسمه الدمنهوري، كان رجل دين فودع الدين والديانة، وقال ليس في القرآن أي لون من الإعجاز، ولكنه أمام قوله تعالى من سورة «الأعراف» كلمة ونادى أنها في الماضي مع أنها في المستقبل، فهذه نالت إعجاب الرجل فأشاد بها. ولا ننس لاعب السيرك من بلاد الشام الملقب بالشحرور، الذي لعب بالكلمات فكانت النتيجة أن البنين تعني البنايات، وأن النساء لا تعني المرأة، بل شيء سيأتي في المستقبل، مما يذكر بحواة السيرك الذين يخرجون من القبعات السوداء أرانب بيضاء.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى