القــــرآن والتـــــاريخ (3- 4) بقلم: الدكتور خالص جلبي
رواية العهد القديم
وإذا كان الطوفان في ملحمة جلجامش قد استغرق أسبوعا من تدفق المياه بدون توقف، ففي العهد القديم 40 يوما، وبالطبع لا يمكن مقارنة الدقة والبلاغة الموجودة في القرآن، مع النص الذي سنورده: «وكان الطوفان أربعين يوما على الأرض. وتكاثرت المياه ورفعت الفلك، فارتفع عن الأرض. وتعاظمت المياه وتكاثرت جدا على الأرض. فكان الفلك يسير على وجه المياه. وتعاظمت المياه كثيرا جدا على الأرض. فتغطت جميع البلاد الشامخة التي تحت كل السماء. خمس عشرة ذراعا في الارتفاع تعاظمت المياه، فتغطت الجبال. فمات كل ذي جسد كان يدب على الأرض. من الطيور والبهائم والوحوش وكل الزحافات التي كانت تزحف على الأرض وجميع الناس. كل ما في أنفه نسمة روح حياة من كل ما في اليابسة مات. فمحا لله كل قائم كان على وجه الأرض. الناس والبهائم والأذبة وطيور السماء فانمحت من الأرض. وتبقى نوح والذين معه في الفلك فقط. وتعاظمت المياه على الأرض مائة وخمسين يوما».
عرض القرآن لقصة الطوفان
جاء عرض القرآن يؤكد الخراب المرعب الذي ترتجف له المفاصل، من طوفان تتحرك أمواجه كالجبال، وتحولت السماء إلى مصبات مائية كونية تصب دفعة واحدة، في الوقت الذي تنسطم كل تصريفات الأرض الصحية، ليس لتشفط الماء إلى أعماقها، بل لتتدفق المياه منها بشكل مقلوب جدا، في إشارة عجيبة إلى بدء تنفيذ العملية من تنور هو بالأصل للخبز «وقد يكون إشارة إلى بركان انفجر»، لتتدفق منه المياه في مشهد صارخ على انقلاب الحياة العادية بالكامل. في حالة إشباع مائي للأرض لم تعرفه من قبل ولا من بعد».
حدث كوني من هذا الحجم وسفينة معالجة في الغالب بألواح الخشب وألياف «الدسر» تربطها، والقار تطلى به لمنع تسرب الماء، كله يشير إلى حدث «ما قبل تاريخي PREHISTORIC». والمعلومات الجديدة التي تدفقت اليوم من خلال تعاون مجموعة كبيرة من العلماء من خبراء المحيطات والجيولوجيين، الذين ينقبون كل شبر في الأرض، وصلوا في نهاية دجنبر من عام 1996م إلى اختراق معرفي جديد في قصة الطوفان. ولا يعني هذا معلومات يقينية نهائية، بحيث تركب الآية القرآنية عليها، فهذا فضلا عن أنه ابتسار للعملية التاريخية وتهالك على تصديقات لم تقل الأرض فيها كل الحقيقة، ولكنها تنفع في تقريب قصة الطوفان، الذي تحدثت عنه كل الكتب القديمة والأساطير، وانتهاء بالقرآن في عملية إجماع غير معهودة لحدث من حجم فلكي، وشهادة لذاكرة جماعية إنسانية، تعرضت لحدث كوني غير قابل للمحي من الذاكرة الجمعية.
أخبار الأرض هي النصوص الجديدة التي تتكلم
كانت النصوص المكتوبة هي التي تتكلم، ولكن النص الجديد الذي تكلم الآن تحدث بلهجة ولسان جديدين: من باطن الأرض، والحفريات وبقايا الرسوبيات، ونحت الطبيعة، وتآكل الشواطئ، وحديث الأوقيانوس، وبقايا الحيوانات المحفوظة في براد الطبيعة. كلها تروي قصة عجيبة حدثت قبل 7500 سنة في نهاية العصر الحجري، مع العصر الحجري الحديث، بعد الثورة الزراعية وقبل انطلاق الحضارات، عن تحول جغرافي، وانقلاب كوني، وقصة بداية اشتعال زناد انبعاث الحضارات من رقدة المجتمعات البدائية؛ ففي هذه الحقبة كان الجنس البشري قد شق الطريق إلى الثورة الزراعية وبدا في اختراع الأدوات البدائية الأولية، وتكاثر حول بحيرة عظمى في منطقة خضراء غناء هي البحر الأسود، الذي لم يكن يومها بحرا، بل بحيرة حلوة المياه، أقل حجما بقليل من البحر الأسود الحالي، وإذا نظرنا إلى الخريطة فسوف نرى أن البحر الأسود ينفتح بمضيق البوسفور، حيث تجلس على حافته الغربية مدينة القسطنطينية التي سيصبح اسمها إسطنبول، ليفتح بعدها على بحر صغير هو بحر مرمرة، ثم ليضيق مرة أخرى ليشكل المضيق التاريخي، الذي عبره الملك الفارسي «كزركسيس» للهجوم على اليونان المعروف بالهلسبونت: الدردنيل حاليا، أو الذي سيهجم منه الحلفاء على تركيا في الحرب العالمية الأولى، في هجوم خائب على جزيرة غاليبولي، كلف الحلفاء مئات الآلاف من القتلى «ربما وصل قتلى كل من بريطانيا وحلفائها إلى 240 ألف جندي، وهزم فيها تشرشل للمرة الثانية بعد هزيمته في كوت العمارة بالعراق، ولم يهزم إلا على يد الأتراك، ولكن التاريخ يغطي قباحات وزير الحربية».
التشكل الجغرافي إذاً بحر مرمرة ومضيقان للأعلى والأسفل، الأول البوسفور الذي يشكل عنقا يتصل بالبحر الأسود، والثاني قناة ضيقة تصل الأسود بالمتوسط. ولكن قبل ثمانية آلاف سنة لم يكن الوضع الجغرافي هكذا، حيث لم يكن هناك وجود للبحر الأسود، بل كانت بحيرة مفصولة عن المتوسط بعتبة صخرية ضيقة بدون فتحة، تمتد خلفه البحيرة العظمى الحلوة بشعوب تتكاثر على شطآنها، تتمتع بحياة راقية في مستوى شعوب تلك الأيام، بعد أن قفز الإنسان من حياة الغابة والجوع، إلى إنتاج الطعام والتحول من حياة الصيد وجمع الثمار إلى الثورة الزراعية، وما يلحق بها من تشكيل المدينة، وتنظيم العمل وتخصصاته، وولادة الدولة التي تحتكر العنف فتنهي نزاعات الأفراد الداخلية، وتمنح الأمن داخلها وحمايتها من أي اقتحام خارجي، وهو يعني بداية شق الطريق إلى الحضارة.
نافذة:
جاء عرض القرآن يؤكد الخراب المرعب الذي ترتجف له المفاصل من طوفان تتحرك أمواجه كالجبال وتحولت السماء إلى مصبات مائية كونية تصب دفعة واحدة