القصة المنسية للمطبعة السلطانية
محمد الخامس أحدث بها ثورة في أوساط العلماء
«في يوم 13 أكتوبر 1927، صدر ظهير يفيد بأن رواتب العلماء قد زيد فيها، وأنه قد تأسس بالرباط مجلس أعلى برئاسة السلطان المولى يوسف وعضوية الصدر الأعظم ووزير العدلية والأوقاف والحاجب، وتقضي بتعيين أمين ورقيب، وكان يعد المجلس بمثابة هيئة عليا تراقب المجلس العلمي بفاس. هذا الإصلاح بوشر أشهرا قليلة فقط، قبل وفاة المولى يوسف، ومجيء ابنه المولى يوسف إلى الحكم.
استكمل الابن عمل الأب، لكنه أحدث في ثلاثينيات القرن الماضي ثورة كبيرة في صفوف العلماء المغاربة، ووضع نظاما علميا جديدا، محدثا زلزالا علميا وثقافيا كبيرا، دون إثارة انتباه الإدارة الفرنسية.
في هذا السياق تأسست المطبعة السلطانية، والتي أسسها الملك الراحل بنفسه، لكي يشرف على التكلف بإصدار وطباعة كتب العلماء المغاربة، بدل أن يتسولوا طباعتها في الخارج..».
يونس جنوحي
+++++++++++++++
محمد مُلين.. أول مدير لمطبعة السلطان
«أما المطبعة السلطانية التي أسست للمساهمة في بعث التراث المغربي القديم وتشجيع الكتّاب والمؤلفين على النشر، فقد شرف صاحب الجلالة كاتب هذه السطور بتعيينه مديرا لها، وكان لتدشين هاتين المؤسستين زيادة على أهميتهما الثقافية والاجتماعية، مغزى سياسيا تنبغي الإشارة إليه. إذ كانت هذه أول مرة ينخرط فيها في سلك الموظفين شبان عرفوا بروحهم الوطنية، وبمساهمتهم في العمل السياسي».
الكلام هنا لمحمد الرشيد مُلين، وهو أحد قدماء موظفي القصر الملكي، وشغل منصب وزير الدولة في حكومة البكاي سنة 1956، وكان من بين الشباب المغاربة الأوائل الذين اضطلعوا بمهام سياسية، قبل الاستقلال. إذ اشتغل في ديوان السلطان محمد بن يوسف، وكان شاهدا على تفاصيل عصيبة من الخلافات بين القصر والإقامة العامة الفرنسية.
مظهر محمد مُلين كان يعكس شخصية شاب هادئ جدا، يرتدي نظارة طبية، وينظر إلى مخاطبه بهدوء شديد، والابتسامة لا تفارقه. ولهذا السبب تحديدا استمر في منصبه منذ أربعينيات القرن الماضي، وبقي مخلصا للسلطان محمد بن يوسف خلال محنة المنفى، وعاد بقوة إلى القصر الملكي في نهاية 1955، وكان من أوائل أطر مغرب الاستقلال.
كيف إذن عهد إليه الملك الراحل ما بين سنتي 1942 و1943، بالإشراف على «الخزانة السلطانية»؟
وُلدت فكرة المطبعة في سياق محموم يسيطر عليه السباق مع الوقت، لإبعاد فرنسا عن الشأن الثقافي والديني في المغرب.
إذ إن السلطان محمد بن يوسف أدرك مبكرا أن فرنسا تريد التدخل في الحقل الديني، فعمد إلى إصلاح منظومة العلماء المغاربة، كما أنشأ المدرسة المولوية، لكي يُعلم أبناءه بعيدا عن سلطة الحماية الفرنسية، خصوصا ولي العهد، وأيضا لكي يعطي انطلاقة إنشاء المدارس المغربية.
وفي الوقت الذي تأسست المدرسة المولوية، كان السلطان محمد بن يوسف قد أعطى تعليماته لكي يتم إنشاء مطبعة سلطانية تتولى طباعة كتب ومؤلفات العلماء المغاربة، وإعادة إصدار المخطوطات والدراسات العلمية المغربية المرتبطة بأرشيف المغرب وإنتاجاته العلمية.
واختار السلطان محمد بن يوسف موظفه في الديوان، محمد الرشيد ملين، لكي يتكلف بإدارة هذه المطبعة.
وهكذا كان مكتبه في القصر الملكي قبلة للعلماء والمثقفين المغاربة الراغبين في طباعة مؤلفاتهم.
حيث كان مُلين يحصل منهم على النسخ الأولية، وأغلبها وقتها كانت تكتب بخط اليد، لكي يطلع على مضمونها ويعد ملخصا عنها يرفع مباشرة إلى السلطان، لكي يدخل العمل المكتوب إلى المطبعة ويصدر على شكل كتاب من إصدار المكتبة السلطانية.
أغلب العلماء المغاربة وقتها استفادوا من هذه العملية، حيث تضاعف عدد إصدارات الكتب المغربية بشكل كبير. إلى درجة أن شيخ الإسلام عبد الحي الكتاني توصل بمراسلات من فقهاء من الشرق، سألوه عن المطبعة السلطانية في المغرب. إذ كان صيتها قد وصل إليهم من خلال الطلبة الذين جاؤوا إلى المغرب للاطلاع على مكتبة القرويين في فاس ومكتبة مراكش الكبرى، ونقلوا خبر انطلاق «حملة كبيرة للطباعة» في المغرب.
هكذا قرّب القصر أبرز عالمين في أربعينيات القرن الماضي
بحكم أن محمد ملين كان مدير مكتب الملك الراحل محمد الخامس، في أربعينيات القرن الماضي، فقد أورد في مذكراته «نضال ملك» – طبعت في المطبعة السلطانية وصدرت سنة 1956، مباشرة بعد استقلال المغرب- وكان وقتها هو وزير دولة منتدبا في حكومة البكاي الثانية، أن الملك الراحل محمد الخامس اهتم بالعلم والعلماء في أغلب خطبه الملكية، منذ بداية الحرب العالمية الثانية سنة 1939. إذ يقول ملين إن أي متتبع لخطب السلطان منذ ذلك التاريخ سوف يلاحظ بسهولة إيلاء السلطان أهمية كبرى للعلماء، وإثارته لقضايا العلم والتعليم. إذ توخى السلطان، حسب ملين دائما، تحقيق شرطين أساسيين وهما: الرجال المخلصون، والرجال المثقفون الأكفاء.
يقول ملين في مذكراته، «نضال ملك»: «ولكي يعطي السلطان مثلا يقتدى في هذا الميدان، فقد قرب إليه في المخزن الشريف عالمين جليلين هما المصلح السيد محمد بن العربي العلوي، والحافظ السيد المدني بن الحسني. ويتمتع هذان العالمان بشهرة كبيرة في الأوساط المغربية، ولهما تأثير عليها. فهما قطبا الثقافة الإسلامية في المغرب».
تقريب هذين العالمين من القصر، كان تعويضا عن الفراغ السياسي، بحكم أن المغرب وقتها لم يكن بعد يتوفر على أحزاب سياسية بهيكلة تسمح بمزاولة العمل السياسي. إذ رغم انتشار أنصار الحركة القومية وقتها في أوساط علماء المغرب ومثقفيه، إلا أن العمل السياسي وقتها، في النصف الأخير من ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن قد بدأ بعدُ على الميدان، رغم أن أغلب رموز الحركة الوطنية في تلك الفترة كانوا قد بدؤوا أنشطتهم المناهضة للحماية الفرنسية.
احتضان السلطان محمد بن يوسف لهذين العالمين، كان مثمرا من الناحية السياسية، إذ في الوقت الذي كانا فيه قريبين من السلطان، وملازمين له، باشر القصر إصلاحات كبرى في الحقل الديني، مع بداية الأربعينيات، وتأسست المدرسة المولوية وأعيد تنظيم هيكلة العلماء، بما في ذلك وضع نظام للاختبارات لمنح شهادة العالمية. فكان كل هذا دليلا على ثورة ثقافية كبيرة شهدها المغرب، تكللت بتأسيس هذه «المطبعة السلطانية»، التي استمرت مع الملك الراحل الحسن الثاني وأصبح اسمها «المطبعة الملكية»، وقد أشرف وقتها الملك الراحل الحسن الثاني الذي ورث المطبعة على طباعة مخطوطات أخرى، شكلت أساس الخزانة الملكية التي تعتبر اليوم واحدة من أغلى المكتبات في العالم.
+++++++++++++++
عندما رفع القصر أجور علماء القرويين..
في سنة 1927، تذمر بعض علماء القرويين من الغلاء وارتفاع مستويات المعيشة، لكنهم لم يكتبوا الأمر مباشرة، بل اكتفوا فقط بتداوله في ما بينهم، في المجالس الخاصة.
كان إصدار كتاب وقتها يكلف صاحبه مبلغا كبيرا، خصوصا وأن أغلب المطابع يسيطر عليها المشارقة، وحتى النسخ كان يتم بطريقة بدائية ومكلفة للغاية. إذ كان عمر بعض الآلات المستعملة في نسخ الكتب والمخطوطات المغربية، يعود وقتها إلى مائتي سنة وأكثر. بالإضافة إلى أن حرفيي فاس الذين كانوا يتوارثون مهنة «تجليد» الكتب كانوا بدورهم يعانون من الأزمة، حتى أن بعضهم وصفوا بأنهم «صاروا قاب قوسين من التسول في أزقة فاس»، بسبب توقف أنشطتهم الحرفية، لأن العلماء والفقهاء الذين يفترض أنهم يطلبون من هؤلاء الحرفيين تجليد الكتب، كانوا بدورهم يعانون من الغلاء.
يقول إدريس العلوي العبدلاوي في نص محاضرة له في تسعينيات القرن الماضي، حول موضوع تجديد إدارة جامع القرويين، وأثر ذلك على حياة العلماء والفقهاء المغاربة:
«كان أول من وضع اللبنة الأولى لهذه التنظيمات هو السلطان المولى محمد بن عبد الله، حين فتح ملفا خاصا يتعلق بجامعة القرويين، وأصدر منشورا ملكيا في هذا الصدد سنة 1789، وخصص الفصل الثالث منه للدراسة بالقرويين وفروعها، وأمر بتدريس مواد معينة، وتقرير كتب خاصة.
ثم تلاه السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام الذي وجه خطابا بتاريخ 12 محرم 1261 هـ إلى قاضي القضاة بفاس، يأمره أن يجمع المدرسين ويرشدهم إلى ما فيه خير الطلبة وخدمة العلم. واستمرت هذه العناية متواصلة إلى عهد المولى يوسف، الذي طلب من العلماء في رمضان شتنبر 1912 إثر توليته بقليل، أن يهيئوا تقريرا في شأن إدخال بعض المواد في التدريس، وأمر بإنشاء مجلس علمي يتولى شؤون الجامعة، كان على رأسه الفقيه العلامة أحمد بن الخياط.
وبعد سنة واحدة من تأسيس المجلس العلمي، وردت رسالة مخزنية تحمل الأمر بجعل الانخراط في صفوف العلماء متوقفا على النجاح في الامتحان واجتياز مباراة.
وفي يوم 13 أكتوبر 1927، صدر ظهير يفيد بأن رواتب العلماء قد زيد فيها، وأنه قد تأسس بالرباط مجلس أعلى برئاسة السلطان المولى يوسف وعضوية الصدر الأعظم ووزير العدلية والأوقاف والحاجب، وتقضي بتعيين أمين ورقيب، وكان يعد المجلس بمثابة هيئة عليا تراقب المجلس العلمي بفاس. وهكذا تدرج إصلاح جامعة القرويين بعدة تنظيمات في فترات مختلفة من هذا العصر العلوي، حتى وصل هذا الإصلاح إلى تنظيم محكم وبناء متقن مع جلالة المغفور له محمد الخامس.
لقد كان عهد محمد الخامس عهدا دقيقا وظرفا عصيبا في تاريخ المغرب وحياته التحررية، تميز بمرحلتين مرحلة الاستعمار ومرحلة الاستقلال.
ففي المرحلة الأولى وجد جلالته أن المغرب يرزح تحت نير الاستعمار، ويئن تحت وطأة الاستغلال ويريد الانعتاق من وضع استعماري متعدد الأجناس والمكايد، أحاط بالمغرب من كافة أطرافه، ويستغل خيراته ويستنزف ثرواته، ويحرم الشعب من حريته وكرامته وشخصيته وأمجاده التي عرف بها عبر قرون وأجيال، فكانت هذه المرحلة من حياة جلالته مرحلة كفاح مرير، وجهاد طويل، وصبر مستميت، استلزم التضحية بكل غال وثمين ونفيس».
هكذا تم التأسيس لجيل «المخزنيين» المثقفين
عندما وصل السلطان الراحل محمد بن يوسف إلى الحكم في سنة 1927، ورث عن والده المولى يوسف فريقا كاملا من العلماء والمستشارين، وحتى من الإداريين الذين كانوا موالين للحماية الفرنسية. وهكذا كان القصر الملكي في الرباط، يتسع للجميع. للذين كانوا ضد الحماية الفرنسية وضد الوجود الفرنسي في دواليب الإدارة المخزنية، وأيضا للذين وصلوا أصلا إلى الإدارة بفضل اتفاقية الحماية.
وهؤلاء، كان بعضهم من أصول جزائرية، جاؤوا خصيصا للعمل مع السلطان مولاي يوسف سنة 1912، أو قبلها، ومن بينهم الفقيه محمد المعمري، والحاج المقري وقدور بنغبريط.
يجتمع هؤلاء الثلاثة في أنهم كانوا يتوفرون على أصدقاء فرنسيين، ويعرفون العقلية الفرنسية جيدا خلال السنوات التي قضوها في الجزائر، قبل انتقالهم إلى المغرب.
لم يكن السلطان محمد بن يوسف قد بلغ العشرين بعدُ عندما جلس على العرش، وهكذا فقد كان علماء القرويين يتسابقون للفوز بمقاعد إلى جانبه في المجلس الاستشاري، الذي كان يُعقد أسبوعيا في القصر الملكي للتداول في شأن الإصلاحات المخزنية، سيما في مجال القضاء وتدبير المساجد. في المقابل، كان الموالون للإقامة العامة الفرنسية يحاولون فرض وجودهم في محيط السلطان الشاب، ويحجزون مواعد لموظفي الإدارة الفرنسية لكي يجلسوا مع السلطان، لإقناعه بتوقيع الإصلاحات الإدارية التي تقترحها الإقامة العامة.
وتؤكد المعطيات التاريخية أن السلطان محمد بن يوسف كان وراء مباشرة إصلاح لهيكلة جامعة القرويين، بعد وصوله إلى الحكم بقرابة عشر سنوات، أي في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي. عيّن الملك الراحل إذن عبد الله الفضيلي العلوي، وهو أحد أبرز مشايخ القرويين، في منصب رئيس المجلس العلمي الذي يترأس جامعة القرويين، وفق النظام الجديد. وكان يترأسه أغلب علماء الجامعة الذين كانوا حاصلين على درجة «العالمية»، ويتولى ترؤس الدروس والبت في القضايا.
إلى جانب ذلك، عين الملك الراحل محمد الخامس أعضاء وكُتابا ومراقبين في هذا المجلس. وطبق النظام نفسه في مدينة مراكش، حيث أصبح علماؤها يسيرون وفق النظام الذي تسير به جامعة القرويين في فاس.
واختتم الملك الراحل هذه الإصلاحات بوضع نظام تعليمي جديد تسير عليه المدينتان، وفي ظرف ست سنوات، أصبح الخريجون الجدد مؤهلين لشغل المناصب المخزنية في القضاء والإدارة، بعد أن تخرجوا على يد كبار علماء المغرب وصاروا مؤهلين للوقوف أمام التحديات التي فرضتها الإقامة العامة الفرنسية بقوانينها الجديدة.
هذا الجيل من العلماء الإداريين الجدد، في القضاء ودواوين الوزارات والمجالس، أصبح منذ بداية أربعينيات القرن الماضي يؤسس لنظام مغربي خالص في الإدارة، وأصبحت معه الوزارات تتوفر على مكتبات منظمة، واشتغل هؤلاء الخريجون في التأليف، واعتادوا أن يهدوا سنويا إلى الملك الراحل محمد الخامس نسخا من كتبهم.
وفي سنة 1943، حضر الملك محمد الخامس إلى مدينة فاس لاستقبال خريجين جدد من النظام الإصلاحي الجديد، وفوجئ ببعضهم يقدمون إليه نسخا من كتب قاموا بطبعها، تلخص أبحاثا في تخصصاتهم الفقهية والإدارية.
وهكذا خطرت للملك الراحل فكرة تمويل طبع بعض الكتب لفائدة علماء وطلبة لم يستطيعوا تحمل تكاليف الطباعة، خصوصا وأن المغرب وقتها كان حديث عهد بالمطابع.
وعندما خطرت للملك الراحل محمد الخامس فكرة تأسيس مطبعته الخاصة ووضعها رهن إشارة علماء المغرب ومثقفيه، كان ذلك إعلانا ثوريا عن بداية مرحلة تأسيس مكتبة مغربية ضخمة.
الفيلالي.. أول مؤرخ دقق في وثائق ومطبوعات القصور الملكية
أصول هذا المؤرخ المغربي، عبد الكريم الفيلالي، تعود إلى منطقة تافيلالت، نفس أصول العائلة الملكية. كما أنه ترعرع في القصر الملكي وقضى طفولته بين أروقته، بحكم أن والدته كانت تعيش في القصر، وساعده ذلك على الاطلاع على مئات المخطوطات النادرة، التي حققها في ما بعد.
والذين عرفوا عبد الكريم الفيلالي جيدا، يدركون أن الملك الراحل محمد الخامس كان له فضل كبير في توجيهه أثناء مرحلة دراسته، وشجعه على التوجه إلى جامع الأزهر في القاهرة، وهناك لعب الفيلالي دورا مهما في التنسيق من أجل التعريف بالقضية المغربية ومحنة نفي العائلة الملكية سنة 1953.
انتبه الملك محمد الخامس إلى اهتمام الطفل الفيلالي بالمخطوطات والتاريخ، فخلق له منصبا جاهزا في ديوان السلطان، مباشرة بعد حصوله على الشهادة العليا من مصر. إذ إنه عندما عاد إلى الرباط بعد الاستقلال، وظفه الملك الراحل في القصر الملكي، لكي يشرف على ترتيب أرشيف الرسائل المخزنية، وهكذا اطلع على آلاف الوثائق المخزنية بما فيها مراسلات السلاطين العلويين ومخطوطات أخرى لمؤلفات علماء مغاربة.
وهذه المرحلة ساعدته كثيرا في توفير مادة موسوعته الشهيرة: «التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير».
كان الفيلالي وراء اقتراح دعم ملكي لبعض العلماء، الذين كانوا لا يستطيعون تحمل تكاليف طباعة كتبهم.
وعندما أسس السلطان محمد بن يوسف المطبعة السلطانية، في أربعينيات القرن الماضي، كان الفيلالي الشاب وقتها يطالع بنهم ما «تلفظه» الآلة من مطبوعات، تكلف الملك الراحل بنفقة إصدارها لفائدة مجالس العلماء.
في السنوات الأخيرة لحياة الملك محمد الخامس، وبعد أن غادر الفيلالي منصب مؤرخ المملكة لكي ينكب على التأليف وتحقيق المخطوطات، لم يكن منزله يخلو من الطلبة والمهتمين بالمخطوطات القديمة، إلى درجة أن بعض معادي الفيلالي اتهموه مرة بالاستحواذ على وثائق من أرشيف الرسائل المخزنية والمخطوطات من المكتبة الملكية، عندما كان يقيم في القصر الملكي. لكن الملك الراحل الحسن الثاني، الذي كان يعرف الفيلالي جيدا، أنهى الأمر بحكمة، سيما وأن الفيلالي كان معروفا بزهده في حياة المناصب والمسؤولية، حيث غادرها مبكرا، رغم أنه كان من «أبناء دار المخزن».
الحياة الفريدة التي عاشها عبد الكريم الفيلالي في كنف الملك الراحل محمد الخامس فتحت أمامه الباب على مصراعيه لكي يطلع على وثائق لم يكن ممكنا الوصول إليها لولا أنه ترعرع في القصر الملكي، حيث يسجل التاريخ لصالح الفيلالي، الذي توفي في شتنبر 2013، أنه أحد أوائل من دعوا إلى الاهتمام بأرشيف القصر الملكي وترتيب المراسلات والمخطوطات وتحقيقها، وإعادة إصدارها من جديد.
خزانة القرويين.. هكذا تأسست أقدم الخزانات في العالم ومحمد الخامس جددها
عندما أعلن الملك الراحل محمد الخامس تأسيس المطبعة السلطانية، كان علماء القرويين المحيطين به قد كشفوا له أن خزانة القرويين تتوفر على آلاف المخطوطات والكتب، وأن الطلبة يشتغلون سنويا على تدقيق بعضها وتنقيحه، وألفوا رسائل جديدة استنادا إلى ما تزخر به المكتبة من مؤلفات، وعرضوا عليه المشاكل التي تواجههم أثناء نسخ وطبع الإصدارات التي تنضم إلى أرشيف المكتبة، وهكذا باشر السلطان بنفسه حل المشكل المتعلق بالطباعة منذ أربعينيات القرن الماضي.
أما تاريخ خزانة القرويين، فيرتبط بقرون من التأليف، بدأت مع الدول التي تعاقبت على حكم المغرب منذ قرون خلت.
يقول الباحث المغربي علي الغزيوي، في دراسة له نُشرت سنة 2002: «لقد أدرك السلطان أبو عنان المريني أن الحاجة ماسة إلى دعم دور جامعة القرويين بخزانة تخدمها علميا، وأدرك مغزى هذا الإلهام الذي يؤكد ما عرف به هو وأسلافه وخلفاؤه من حب للعلم وتقدير للعلماء، ومن غيرة على الثقافة العربية الإسلامية، فقويت الرغبة لديهم لخدمتها، وهكذا أقدم السلطان الشغوف بالعلم والعلماء على تأسيس خزانة القرويين سنة (750هـ الموافق لسنة 1349- 1350 ميلادية). ولم تكن خزانة عادية أيضا، بل هي خزانة متميزة إلى أبعد الحدود، بمحتوياتها النفيسة، وبما نالته من عناية خاصة.
وهكذا فبعد التأسيس عرفت الخزانة في تاريخها الطويل محطات متعددة، بعضها مشرق، وبعضها قاتم يعكس أحيانا ما عرفته خلال الأوقات العصيبة من سلبيات، غير أنها ظلت مع ذلك صامدة مشعة، مضطلعة بمهمتها النبيلة في مد روادها من مختلف الأصقاع والجنسيات بما يحتاجون إليه من زاد فكري، مهيئة مادة علمية وافرة للدفع بعجلة البحث العلمي نحو الأمام، وذلك بفضل ما أولاه سلاطين البلاد وأمراؤها لهذه المؤسسة العتيدة من عناية، وقد أدركوا قيمتها الكبيرة بفضل تربيتهم العلمية المتينة، وعرفوا دورها ووظيفتها في تكوين المواطن وتشكيل فكره، وتقوية جبهة الصمود في الملمات والنوائب الطارئة، فزودوها بالمصنفات المتعددة في مختلف الفنون والعلوم».
ويتحدث الباحث نفسه عن وثيقة تأسيس هذه الخزانة، أي الرسالة التي بموجبها أسس السلطان المريني هذه المكتبة، قبل أزيد من سبعة قرون ونصف القرن. وتعود تفاصيل وثيقة تأسيس خزانة القرويين، حسب الباحث ذاته دائما، إلى: «تعود هذه الوثيقة من الناحية التاريخية إلى زمن تأسيس خزانة القرويين، وهو العصر المريني، وبالتحديد في منتصف القرن الثامن الهجري، وتتضمن من الناحية الموضوعية ذكر مُنْشِئِهَا السلطان أبي عنان، والثناء عليه بما هو أهل له، مع التنويه بهذه المبادرة الكريمة، بما لها من أبعاد ودلالات متعددة، وما تهدف إلى تحقيقه من غايات، مع النص على مجموعة من الشروط التي ينبغي أن يلتزم بها روادها المستفيدون من محتوياتها، تيسيرا للمحافظة عليها، وتختم الوثيقة بالدعاء للسلطان، وتحديد تاريخ الإنشاء.
ومن الناحية العمرانية والفنية، فإن هذه الوثيقة تزين باب المستودع القديم لخزانة القرويين، فقد نقشت فوق الباب على لوح يواجه الداخل إلى قبة المخطوطات، وتتكون من حيث الحجم من خمسة عشر سطرا، وكتبت بخط نسخي جميل في أصله، وإن غدا بعد تقادمه اليوم صعب القراءة إلى حد ما».
لكن المثير، هو ذكر الباحث علي الغزيوي للطريقة التي كان يتم بها تمويل تلك الخزانة، وهي الطريقة التي اختلفت عن طريقة تدبير الملك الراحل محمد الخامس للطباعة. يقول الغزيوي في دراسته: «وكما كانت الكتب تقتنى بسوق المخطوطات عن طريق المزاد العلني، الخاص بها أيام بني وطاس، فقد وصف «أحمد المنصور السعدي» الذي زاد في خزانة القرويين ما عرف في تاريخها «بالقبة السعدية»، بأنه كان حريصا على إغنائها بالمفيد الصالح، فكان يوقف عليها ما يراه مناسبا، ويكتب ذلك بخط يده. وحرصا منه على تزويدها بالنوادر، كان يبعث بسفرائه المتخصصين من العلماء إلى البلاد المشرقية ليقتنوا ما يزودون به الخزائن المغربية، وفي مقدمتها خزانة القرويين، بما كان ينقصها من الكتب التي تعالج سائر العلوم والفنون، وذلك ما أدى إلى تنوع محتوياتها، ما بين الأصيل والمترجم.
وقد عرف مثل ذلك عند سلاطين الدولة العلوية وأمرائها وأميراتها، ويكفي إلقاء نظرة على ما تضمنته مخطوطات الخزانة من تحبيسات تكاد تكون منتظمة خلال عدة عهود متوالية، وذلك ما يؤكد ما كانت تحظى به هذه الخزانة من أهمية في نفوسهم من جهة، كما يبرز هذا الاهتمام منهم كيف كان العلماء والمؤلفون يقتدون بهم فيوقفون مجموعة من مصنفاتهم على الخزانة من جهة أخرى، بل إن عددا من سلاطين الدولة العلوية قد صنفوا مصنفات مهمة وأوقفوا نسخا منها على خزانة القرويين بالذات، ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر كتاب «الفتوحات الإلهية» للسلطان سيدي محمد بن عبد الله. هذا مع العلم أن خزانات أخرى كانت تؤدي دورها العلمي في فاس، فقد أحصى بعض الدارسين ما يناهز ثلاثا وثلاثين خزانة أخرى فرعية، عدا الخزانات الخاصة، كانت محجا للوافدين المستفيدين منها، إلى جانب الخزانة الكبرى، وذلك ما يزيد الطابع العلمي لهذه المدينة المحروسة تأكيدا».