القراءة والقراءة ثم القراءة
اندلع نقاش حاد ومغلوط في مواقع التواصل الاجتماعي بسبب الدعم الذي قدمته وزارة الثقافة لبعض الفنانين الذين تقدموا بمشاريع للوزارة، البعض قرر التخلي عن الدعم الذي طلبه بعدما احتد الهجوم، والبعض الآخر لاذ بالصمت. الذين لم ينالوا حظا من الدعم خرجوا ينددون والذين ليسوا في حاجة له بسبب وضعهم المالي المريح وجدوها فرصة لمطالبة الدولة بمنح الدعم للفقراء عوض الفنانين. مع أن كثيرا من هؤلاء الفنانين الأثرياء لم يصنعوا في حياتهم شيئًا لصالح الفقراء.
والواقع أن هذا الدعم لا علاقة له بالجائحة، فهو دعم سنوي يدخل في إطار الالتزامات الحكومية، والمبالغ المصروفة تدخل في ميزانية المالية الحكومية التي يصادق عليها البرلمان، لذلك فالنقاش الذي يجب أن يفتح هو النقاش حول جودة المنتوج الفني ومدى مساهمته في تهذيب الذوق وإشاعة السلوك المدني والتربية على المواطنة.
أعتقد أن الدعم الذي يجب أن يكون منتظمًا ومعقلنا هو دعم القراءة. ومن يطالع نتائج البحث الميداني الذي أنجزه أطر المندوبية السامية للتخطيط حول استخدام المغاربة للوقت يكاد يصاب بالدوار. فقد كشف البحث أن المغاربة يقضون 10 ساعات ونصف يوميا من وقتهم في النوم والعناية بأجسادهم، فيما لا يخصصون سوى دقيقتين من وقتهم اليومي للقراءة.
ولو تعمق الباحثون أكثر وبحثوا في نوعية القراءة التي تشغل دقيقتين من وقت المغاربة لاكتشفوا أن جل هذه القراءات لا تخرج عن قراءة فواتير الهاتف والماء والكهرباء ووصفات الأطباء وعلب الدواء، دون أن ننسى طبعا قراءة اللطيف قبل مغادرة البيت في الصباح اتقاء لعيون الحاسدين وقطاع الطرق وكل الشرور التي يتخيل المغربي أنها تتربص به عند عتبة البيت.
عندما نقرأ نتائج هذا البحث ونكتشف أن القراءة هي آخر ما يشغل بال المغاربة، نشعر فعلا بخطورة الأمر. خصوصا على مستوى تداول المعلومة والخبر، والتي تبقى غير متاحة أمام ملايين المواطنين بسبب عجزهم أو نفورهم من القراءة. فلكي تتلقى الأخبار والمعلومات والأفكار يجب أن تقرأ، ولذلك فأول أمر أنزله الله تعالى على رسوله هو «اقرأ».
والقراءة في الدول التي تعرف قيمتها ليست مجرد هواية، بل هي إحدى أهم مسؤوليات الدولة، وإذا سألت رئيس الحكومة عندنا مثلا عن برنامجه لدعم القراءة فإنك لن تتلقى منه جوابا، لأن الحكومة ليس لها برنامج لمثل هذه المشاريع التي تنخرط في المستقبل.
وإذا أنت راجعت جميع مداخلات الوزراء واحدا واحدا فلن تعثر على إشارة إلى كتاب أو مقولة لفيلسوف أو حكمة لنابغة. وكل ما ستعثر عليه هو كلام خشبي سطحي فارغ من أي عمق، يكشف أن أصحابه لا يقرؤون سوى «الحسايف» في بعضهم البعض.
وحتى برامج التعليم التي تسطرها الوزارات المتعاقبة لا تضع في اعتبارها تشجيع القراءة وتحبيبها للتلاميذ.
وعندما أقارن الفترة التي درس فيها أبناء جيلي والفترة الحالية أكتشف أن منسوب القراءة تراجع بشكل مهول، إلى درجة أن الكتاب سيصبح قريبا قطعة نادرة توضع في المتاحف.
ولعل أكبر مظهر من مظاهر الجهل بدور المعرفة والقراءة في تقدم البلاد وازدهارها، هو تخصيص مليارات الدراهم لدعم صناعة سينمائية وطنية رديئة، تساهم في نشر الجهل والسطحية ومظاهر التغريب والمسخ الثقافي، وإغفال دعم الكتاب ونشر القراءة.
مع العلم أن دعم نشر أمهات الكتب وطبعها على نفقة الدولة يكلف أرخص بكثير من دعم مخرجين سينمائيين بالملايير لإنتاج أفلام لا يساهم بعضها سوى في نشر ثقافة سطحية وحوارات مبتذلة منقولة حرفيا من لغة «السوق» تحت ذريعة الواقعية السينمائية.
ولو أن الدولة استغلت الميزانيات التي وفرتها بعد إلغاء المهرجانات السينمائية وحولت ميزانيتها لدعم مهرجانات لتشجيع القراءة ونشر الكتب، لكان أفضل. وعوض تقديم دعم بثلاث مائة مليون سنتيم لمخرج واحد لكي يصور فيلما لن يشاهده أحد آخر سواه، سيكون من المفيد تخصيص هذا المبلغ لطبع عشرات الآلاف من النسخ لمجموعة من الكتب وبيعها بثمن رمزي للعموم، وإهداء بعضها للمكتبات ودور الثقافة في الأحياء الشعبية. هكذا ستشجع الدولة الشعب على القراءة.
وكم يشعر المرء بالأسى والحزن عندما يقف في محطة للقطار ويتأمل عشرات المسافرين جالسين يطالعون وجوه بعضهم البعض عوض مطالعة كتاب أو جريدة. حتى أصبح منظر مسافر أو مسافرة وهو جالس يقرأ كتابا بانتظار رحلته في محطات المغرب أو حدائقه، شيئا نادرا يستحق تخليده بصورة تذكارية.
إن خلاص المغرب لا يوجد فقط في تشجيع السياحة ولا في تشجيع الاستثمار الأجنبي ولا في تشجيع الهجرة للرفع من أعداد جاليتنا المقيمة بالخارج. الخلاص يوجد أساسا في الاستثمار في المعرفة. والمعرفة تبدأ بالقراءة، ومجتمع لا يقرأ محكوم عليه بالجهل، والجاهل يبقى طيلة حياته عبدا لمن يمتلك المعرفة.
إن المهمة الرئيسية للدولة اليوم هي تشجيع القراءة والاستثمار في المعرفة. وهذه عملية لا يمكن أن تنجح بوجود أشخاص يفتقرون إلى هذه الخصال على رأس المؤسسات الحكومية والإعلامية العمومية. ففاقد الشيء لا يعطيه.