شوف تشوف

الرأيالرئيسية

القرآن والعقلانية ومفهوم المعجزة

مع بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم تأكيد على استخدام العقل كأداة للإيمان، وعدم استخدام المعجزة كأسلوب مباشر ورئيسي للإقناع. مثال ذلك ما ورد في سورة «الإسراء» من طلبات متنوعة من ينبوع يتفجر، وسماء تتساقط، وملائكة تمشي مشية عسكرية يتقدمها الرب شخصيا، (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا، وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا) (17: 90- 94).

وهكذا تغير أسلوب المعجزة ودخل العقل الإنساني مع المسيرة الإنسانية خلال التاريخ مرحلة جديدة، حيث لم يعد في حاجة إلى معجزة، وهو ما سماه فيلسوف الإسلام محمد إقبال مولد العقل الاستدلالي، فالكون كله مظاهر معجزة؛ فتارة يلفت القرآن النظر إلى الدابة والطير (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه، قل إن الله قادر على أن ينزل آية ولكن أكثرهم لا يعلمون. وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) (6: 37- 38).

وتارة آيات الأنفس والآفاق التي ستدل على صدق القرآن، كما هو الحال في مشكلة الكحول في الغرب، وكيف حرمت أمريكا الخمر في قانون فولستد المشهور: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) (41: 53).

وتارة هي دلائل التاريخ وما سبق من أحداث (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه، أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى) (20: 133).

ويختصر القرآن المشكلة في عدم إرسال الآية بشواهد التاريخ: (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون، وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا) (17: 59)، فالآية أو المعجزة القاهرة كما في ناقة صالح التي نحروها كانت للإرهاب والتخويف، والتكذيب بها يعني الإهلاك، والطريقة السليمة في الإقناع ليست في قهر العقل وتعجيزه كما ناسبه في وقت من الأوقات، ولذا ومع تطور العقل الإنساني تغير لون المعجزة لكي يترك المجال حرا أمام العقل. ومنه مبدأ عدم قتل الإنسان لتغيير رأيه (وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (18: 29).

في هذا الصدد تحدث الفيلسوف محمد إقبال في كتابه «تجديد التفكير الديني»، تحت بحث روح الثقافة، ما يلي: «وفي الحق أن الطريقة التي استعمل بها القرآن لفظ «وحي»، تبين أنه يعتبر الوحي صفة عامة من صفات الوجود، وإن كانت حقيقته وطبيعته تختلفان باختلاف مراحل التدرج والتطور في الوجود؛ فالنبات الذي يزكو طليقا في الفضاء، والحيوان الذي ينشئ له تطوره عضوا جديدا ليمكنه من التكيف مع بيئة جديدة، والإنسان المستلهم للنور من أعماق الوجود، كل أولئك أحوال من الوحي تختلف في طبيعتها وفقا لحاجات الإنسان، أو لحاجات نوعه الذي ينتمي إليه. وفي طفولة البشرية تتطور القوة الروحانية إلى ما أسميه الوعي النبوي، وهي وسيلة للاقتصاد في التفكير الفردي والاختيار الشخصي، وذلك بتزويد الناس بأحكام واختيارات وأساليب للعمل أعدت من قبل، ولكن الوجود أخذ بمولد العقل وظهور ملكة النقد والتمحيص التي لا تعتمد على العقل طريقا جديدا.

والإنسان محكوم أساسا بالعاطفة الغريزة، أما العقل الاستتدلالي، وهو وحده الذي يجعل الإنسان سيدا لبيئته فأمر كسبي، فإذا حصلناه مرة وجب أن نثبت دعائمه، ونشد من أزره، وذلك بكبت أساليب المعرفة التي لا تعتمد عليه، فإذا نظرنا إلى الأمر من هذه الزاوية وجدنا أن نبي الإسلام يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث؛ فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها، فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم اتجاهها الجديد، ومولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي.

إن النبوة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمدا إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان لكي يحصل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو.

إن إبطال الإسلام للرهبنة ووراثة الملك، ومناشدة القرآن للعقل وللتجربة على الدوام وإصراره على أن النظر في الكون، والوقف على أخبار الأولين من مصادر المعرفة الإنسانية، كل ذلك صور مختلفة لفكرة انتهاء النبوة.

إذا تبلور ما مر وصلنا إلى نتيجة مضاعفة، خلاصتها نصر محتم لطريق النبوة في الدنيا والآخرة. إن صورة هذا النصر تغيرت بعد بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، فلم تعد تعتمد التدخل الإلهي المباشر، بل النصر من خلال سنة الله في خلقه. وهو ما اتبعه محمد عليه الصلاة والسلام ونجح به؛ فهي سنة من سنن الله في خلقه كدوران الشمس والقمر. (ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا، حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين) (6: 34). ولكن هذا النصر متعلق بالمبدأ وليس بالشخص، فلا يمكن تعليق مبدأ بحياة شخص. (وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) (الرعد 40)، فهناك عدم ارتباط بين صاحب الدعوة ونتيجة عمله، بل ارتباط بين المبدأ والنتيجة. إن تغير المجتمعات لا يتطلب قرونا، كما أنه لا يمكن إنجازه في سنوات قليلة، بل له قوانينه التي تحكمه، والتفت ابن خلدون في مقدمته إلى قانون قيام الدولة وانهيارها وحددها في ثلاثة أجيال وهي 120 سنة، والرسول  صلى الله عليه وسلم أنهى عمله وختمه بعمل ربع قرن، فأكمل الدين وبلغ الرسالة وبنى الأمة.

خالص جلبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى