بقلم: خالص جلبي
سألني أحدهم: هل فلان شيعي؟ قلت له: لست متأكدا ولم أسأله ولعله كذلك. تابع: أظنه شيعيا. قلت له: وكيف عرفت؟ قال: من عينيه، كانتا تشعان بالخبث! سكتت أنا، ثم عقبت بسؤال: هل تعلم أين ولد فلان؟ قال: لا. قلت له: في مدينة الناصرية في جنوب العراق. تابعت بسؤال ثان: لو ولدت أنت في مقاطعة بافاريا في جنوب ألمانيا، أو في مدينة قم في إيران أو في التيبت أو في الفاتيكان بماذا كنت ستدين؟ شعرت أنه زُلْزِلَ. قال: ماذا تقصد بسؤالك هذا؟ قلت: لا شيء فقط السؤال.
يتشكل الإنسان بشكل جوهري في مرحلة ما قبل المدرسة، فيتبرمج في خرائط ذهنية لا فكاك منها وفي سجن من أربعة أسوار، من (البيولوجيا) و(التاريخ) و(الثقافة) و(الجغرافيا). يشكله المجتمع بأقوى من صهر الحديد في مصانع الصلب؛ فيخرج منها طائرة أو حاوية قمامات («بركاسة» كما يقول المغاربة، وهي نكبة الحارة عندي في تكوم الأزبال)، وهذا يعني أن كثيرا مما نتصرف يحصل من خلال عالم (اللاوعي) الذي كشفه علم النفس التحليلي؛ فالإنسان مكون من ثلاث طبقات منضدة فوق بعضها البعض. في الأعلى (ما فوق الوعي) وهي جدا رقيقة، وهي موضع التماع بريق الأفكار الإبداعية الفجائية. وطبقة (الوعي) وهي تمثل 5 في المائة من كياننا النفسي، وهي تشبه ضوء المنارة على ساحل المحيط عندها القدرة في تركيز الضوء في محرق محدد لوقت محدد. فإذا انقضت تحولت المنطقة إلى ظلام دامس، وتحتها طبقة (اللاوعي) التي تمثل 95 في المائة، الذي يمثل المحيط الواسع الذي يضم شخصيتنا، وفيه مستودعات (الخبرات) و(العواطف) و(الأخلاق)، بل و(العقد النفسية)، ومن ظلماته تتشكل الأحلام فنعيش حياتنا الثانية.
نحن نقود السيارة، ونشرب فنجان القهوة، ونزرزر قميصنا، بل ونمارس الجنس برتابة آلية. وهناك من يصلي بأداء روتيني وطقوس خالية من الخشوع الذي هو لب العبادة، لأنه وجد آباءه يصلون فهو على آثارهم يهرع.
الروتين سيئ ورائع في الوقت نفسه، لأنه بقدر ما يقتل الإبداع بقدر ما يريحنا. لو كان إفراز الهورمونات وخفقان القلب مرتبطين بالفكر، لسقط العقل في شباك الطبيعة العمياء، وحتى الكلام يسيطر عليه (اللاوعي)، مع أنه أكبر تجليات الوعي. فنحن حينما (نتكلم) لا نفكر كيف تمر الكلمات من الدماغ إلى جهاز التصويت، ولو فكرنا في كيف نفكر لانقطع كل تفكير.
ولو تأملنا جسدنا لرأينا فيه تداخل ثلاثة مستويات في اللحظة نفسها، من (الإرادة) و(نصف الإرادة) و(اللاإرادة). فالكلية تنظف على نحو أعمى بدون تفكير، ويمكن أن نحبس أنفاسنا لدقيقة. ولكننا نتميز عن النبات والحيوان، فالنبات ينمو، ولكن لا يعرف لماذا ينمو، أو كيف ينمو، بل هو في قبضة قوانين آلية، وتعرف القطة كيف تبحث عن طعامها وتنظف نفسها لعقا بدون توقف، ولكنها لا تملك تعليل ملوحة ماء البحر. كما لا يقدم الكلب على الانتحار ولم نر شجرة أضربت عن الطعام وأعلنت الصيام، ولكن الإنسان يفعل ذلك. وهكذا فهناك كيانان رئيسيان يتحكمان فينا، ولكنهما متصلان على شكل طريق أحادي الاتجاه في الغالب. فـ(الوعي) هو الذي يشحن أولا، فإذا تشبع نقل الفكر إلى (اللاوعي)، وهذا التيار مستمر على مدار الساعة، كما يشحن الدينامو بطارية السيارة. ويتدفق تيار المعلومات باتجاه واحد، كما في السيالة الكهربائية عندما تمر في محول كهربي من قوة 110 إلى 220 فولتا. وما يصل أرض (اللاوعي) ينحبس فيه ويتحول إلى قوة تشغيل خفية. ونحن لا نعرف لماذا نميل إلى شخص، ولا لماذا نشعر بالسعادة تغمرنا في لحظات، كما أننا نتصرف على نحو عفوي في مواقف عصيبة، فإذا واجهت مصيبة شخصان، تماسك الأول وزُلْزِلَ الثاني، والسبب هو تلك الخبرات القديمة المتراكمة والعواطف المشبعة تجاه الأشخاص والأحداث والأشياء.
نحن نظن أننا نتصرف بوعي كامل، ولكن علم النفس التحليلى كشف حقيقة مزلزلة أننا نملك هامشا ضئيلا من الحرية، وبذلك نمتص ديانة المجتمع الذي نلد فيه، ونحن نظن أن هذه حدث بكامل الوعي والاختيار، ونظن أن هذا هو الحق وكل العالمين ضلال، وهو شعور يمارسه جميع أصحاب الديانات والإيديولوجيات.
نحن جئنا إلى هذا العالم بدون إرادة منا، وسنودعه بالطريقة نفسها. نحن لا خيار لنا في (الجينات) التي منحناها، أو (اللغة) التي تعلمناها، أو (الأمراض الوراثية) التي انتقلت إلينا. لو ولد أحدنا في (التيبت) لكان على الأرجح من أتباع «دالاي لاما»، ولو ولد من رحم امرأة كردية في العراق، لكان سني المذهب غالبا، أو من حزب أوجلان، ولو ولد في أفغانستان لمشى بساق خشبية، ولو ولد في ألمانيا مع مطلع القرن لربما لقي حتفه بطلقة من قناص في ستالينغراد، ولو ولد في بنغلاديش لربما ولد ومات بدون سقف، أو لو ولد في مصر لكان يسكن المقابر دون موت. ولو ولد في دولة خليجية، لكان جيبه عامرا بالمال، ويعتلي صهوة سيارة «جيمس»، تعود رفاهيته إلى صدفة جيولوجية بحتة، حيث تحتاج النفط سيارات ومصانع غربية، وهي قريبا ستزول، ويهرب السعودي عاملا إلى اليمن وبنغلاديش يبحث عن لقمة الرزق، فالسعودية ودول النفط صحاري لا تعيش فيها حتى العقارب والأفاعي. وكما يقول «مالك بن نبي» إن حظوظ الإنسان في هذه الدنيا مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، بما فيها الدين الذي يعتقده. و(قد) يتحرر أحدنا من التحيز، إذا أدرك قانون التحيز، فيتعلم التسامح وأن يتعلم من الآخرين.
نافذة:
يقول «مالك بن نبي» إن حظوظ الإنسان في هذه الدنيا مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان بما فيها الدين الذي يعتقده