الفيلسوف إبراهيم البليهي (2- 3)
بقلم: خالص جلبي
أعترف بأنني تعرفت ببيت «صياد الكتب» على العديد من المؤلفين والمفكرين، وبعضهم كان جديدا علي، وبعض الكتب كانت جديدة علي لمؤلفين كنت أتتبع كتاباتهم بشغف. في بيت البليهي قضمت كتب النيهوم قضما والتهاما مثل آيس كريم في صيف قائظ، وكنت قد تعرفت على أول كتاب له عند الشيخ الموسى بحلب، في مسجد الفرقان، فأتيت على الكتاب في جلسة واحدة.
وقد فتح علي من بعض أفكاره شقوقا في سد يأجوج ومأجوج الفكري، وذكرني بمالك بن نبي وجودت سعيد، وهما شيخاي وأستاذاي، ولكن بن نبي يتفوق على النيهوم بأنه صاحب مدرسة، أما النيهوم فهو صاحب لمعات، وهي لمعات رائعة من برق ورعد في ليل الفكر بالعالم العربي.
خليط رائع من علوم شتى
عند البليهي اجتمعت بخليط رائع من علوم شتى في مكتبته، التي لا تكف عن الاتساع، فأكلت غرفتين، ثم التهمت الطابق العلوي فغرقت بينها في غرفة نومه، وأنا أحاول على غفلة منه التعرف على كتب جديدة مثل الدرر في محيط لجي، أغافله حين يخرج كعادته في إكرام الضيف بالكلام والفكر والتمر والقهوة والشاي المعدة بعناية، لأنه لا يريد أن تكون الزيارة لكتبه، بل له ومعه الحق في هذا. فتعرفت على كتب في النسبية وعلم النفس وميكانيكا الكم وفلسفة التاريخ والفيزياء النووية والجغرافيا المعاصرة وعلم السياسة والجيوبوليتيك وعلم الاجتماع وعالم المرأة والجنس والطاقة والليزر والكشوفات وموت الحضارات؛ فأنا أدين له وأعترف بأنه كان من مصادر الطاقة لدي ومزودي ورافعي في العلم بهذا الاطلاع، الذي كنت في أمس الحاجة إليه في بيئة تقتل العلم قتلا.
كنت خارجا من صلاة العشاء وأنا أتحدث لطبيب متخصص في الجهاز الهضمي من فرنسا: هل اطلعت على كتابة توينبي في التاريخ؟ أجاب: لا، قلت معقبا وبشيء من التسرع: إنها كارثة.
نظر إلي وضحك حتى كاد أن يسقط، إنها كارثة لك وليس لي.
استدركت قولي فقلت: نعم معك حق.
وقلت في نفسي: لقد غلبت يا خالص في نادي الجهلاء.
البليهي إذا سمع بكتاب جديد، أو فيلسوف محدث، أو كتاب صدر لا يعرفه، فتح للسمع أذنيه، وللقلب أبوابه، فهو رجل يقدر أهل العلم، ويعرف مقامهم، ولا يخاف من منافستهم، بل يؤدي لكل ذي حق حقه. ويعرف العميقين من السطحيين والعلماء الفحول من المتطفلين.
قصة الكاهن (جان مسلييه)
كنت يوما أتحدث عن قصة الكاهن (جان مسلييه) من كتاب «سفر الحضارة» لديورانت، قال: هل تعلم في أي مجلد هو وأين القصة؟ ثم أشار إلى إحدى زوايا مكتبته الضخمة إن كامل الموسوعة هناك، وحين بدأت عيناي تزيغان في الرفوف المزدحمة لملياردير الفكر والكتب، وقعتا على كتاب (ويليام شيللر) عن النازية الكتاب الأخضر بأربعة مجلدات، قلت: إنه عندك، قال: نعم، وقرأته.
أحضرت الجزء الذي يتحدث فيه الكاهن مسلييه وكيف نشر فولتير بحذر عهده الجديد، وكان الرجل راعيا لأبرشية طول عمره، سخيا على الفقراء، يقوم بأعمال الكنيسة على خير وجه، فلما مات كان قد كتب في حدود ثلاثين صفحة وصيته، فلما قرأ الناس وصيته ذهلوا من كفره العجيب بالصليب والمصلبة والبابا والكرادلة، فنبشوا قبره ولعنوه وتبرؤوا منه، حتى فولتير لم ينشر كامل إلحاد الرجل في البابا والكنيسة.
حين قرأت عليهم طرفا من الوصية نظر البليهي إلى ابنه الذكي النبيه عمر وقال: انظر عمك جلبي كيف يحفظ الكتب.
وكان البليهي قد كتب مقالة ممتازة عن عبقرية الاهتمام، وأنا واظبت على الاحتفاظ بأرشيف خاص له، تحمل مقالاته الأصلية التي نشرت في جريدة «الرياض»، وما زالت عندي بورقها القديم الأصفر، وكنا نتناوب في نفس صفحة (حروف وأفكار) من الجريدة، فيكتب كل منا مقالة واحدة في أسبوعين، وكانت جريدة «الرياض» كريمة معي فكنت أكتب أحيانا مقالة بأكثر من 4000 كلمة، تملأ صفحة كاملة من الجريدة، ولكنها موثقة جدا، متعوب عليها جدا، معتنى بها جدا، مدققة جدا، فما زلت أعتز بذلك الإنتاج حتى اليوم.
ليس هذا فقط بل كنت أغزو مكتبته وهو يغزو مكتبتي، ومع أنه الشحيح في إعارة الكتب، فقد كان يمدني بطاقة لا تنفد من المعين المعرفي، بل كنا أحيانا نتسابق على كتاب لا نعرف كيف نحصله. حتى يهيئ الله لنا نحن الاثنان من يأتينا به، فإن كانت نسخة واحدة عملنا منها أكثر من نسخة كما جرى معنا في كتاب كلود برنارد في (الطب التجريبي) الذي بقينا نطارده عشرين عاما، حتى حصل لي نسخة من الكتاب صديق تشادي سرا من مكتبة الإسكندرية.
قصة ابن حنبل والخباز
ما فعله البليهي معي حين أدخلني عالم الصحافة في جريدة «الرياض» وراءه قصة عجيبة، تقول وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، فقد انهمكت في الطب في عسير، حتى تعسرت علينا الأمور، فآثرت الرحيل من هناك وفي الحلق غصة. ولم أعلم أن قصتي مع القصيم مثل قصة ابن حنبل والخباز، فقد أراد يوما النوم في مسجد وهو على سفر، فمنعه خادم المسجد من المكث، وأمسك بتلابيبه يجره خارج المسجد؛ فمر رجل خباز وآواه، ولاحظ ابن حنبل ورع الرجل وتقواه وكثرة دعائه.
قال الرجل: لقد استجاب الله لكل دعوة دعوتها إلا واحدة.
قال ابن حنبل: وما هي؟
قال: أن أتعرف على ابن حنبل.
قال: أنا ابن حنبل!
نظر الخباز بعينين مغرورقتين بالدموع، وقال: لقد جرك الرب جرا بيد الخادم إلي ليستجيب دعائي.
وأنا جرني الله جرا من الجنوب إلى القصيم؛ لأنه سيصنعني على عينه في الصحافة، ومن «الرياض» انتقلت إلى «الشرق الأوسط»، ومنحت جائزة أفضل مقالة في العالم العربي عام 1997م.
وكانت القصيم لي غار حراء، حيث تخمرت وتعبت على الأبحاث، وكان ابتعاد ملهمتي ليلى سعيد يدفعني إلى الاعتكاف؛ فكنت راهب علم، فأكرمني الله بفراق ليلى حمل بعير من العلم، حتى اختارها الله إلى جواره بعد اللقاء بقليل، وكنا في هجرة إلى كندا، فهاجرت نهائيا هذا العالم؛ فأنا بعدها في صحراء بدون بوصلة وماء وزاد وخريطة.