«الفضاء الخارجي» العمومي..
يونس جنوحي
دائما نشتكي من استغلال الملك العمومي من طرف المحلات والمقاهي وأحيانا من طرف المواطنين العاديين. يستغلون غفلة رجال السلطة أو «السيبة» لكي يحجزوا أمتارا مربعة من الملك العام ويضموها إلى منازلهم، خصوصا في المدن الصغيرة. تماما كما نشتكي من تراجع المساحات الخضراء والحدائق العمومية واستسلامها لمد الإسمنت الذي يحول كل شيء أمامه إلى عمارات مستطيلة ومكعبة ومصاعد بدون شرفات ولا أقواس.
لكن أهم ما ينقصنا في «أدب الأماكن العامة»، ليس فقط دورات المياه، بل أيضا فضاء خاص بالصور الأرشيفية.
لماذا لا تقام معارض للصور في الهواء الطلق بمدن المملكة وحتى في قراها الصغيرة. أليس من العار أن تكون المكتبات الفرنسية تتوفر على صور نادرة لكل المدن المغربية، بدون مبالغة، بينما سكان هذه المدن أنفسهم لا يعيرون الأرشيف العمومي أي اهتمام.
مرت مناسبات التفت فيها المسؤولون والباحثون قليلا إلى أهمية الصور. ورأينا معارض، على قلتها، عرضت للعموم صورا من قلب مدينة الرباط قبل قرن، وأخرى في قلب محطات القطار الكبرى لأرشيف رواد المسرح المغربي.
لكن كل هذا لا يكفي في بلد عرف الكاميرا منذ أزيد من قرن ونصف.
قام نقاش، لا ندري ما إن كان صحيا أم لا، بين فاعلي المجتمع المدني والسلطات العمومية حول الشكل الذي يجب أن تتخذه المدينة القديمة لطنجة التي يتم حاليا ترميمها، والتي أنجز حتى الآن جزء مهم جدا من مُجمل برنامج إعادة تأهيل وترميم بناياتها وأزقتها. هذا النقاش كان حول الشكل الذي يجب أن تكون عليه النوافذ والأقواس وأبواب المنازل، ثم اللون الموحد الذي يكوّن المشهد الجمالي لواحدة من أعرق المدن المغربية كما يجب أن يراها السياح من البحر قبل أن يضعوا أرجلهم فوق رصيف الميناء.
والصور الأرشيفية هي التي حسمت الموضوع. فجل الكتابات القديمة وصفت منازل طنجة بالبياض الذي «يعمي» الأبصار عندما تسلط عليها أشعة الشمس. بينما بدا شكل الأقواس والنوافذ واضحا في أرشيف المصورين الأوائل الذين التقطوا صورا فوتوغرافية لبوابة إفريقيا. وهذه الصور تساوي اليوم آلاف الأورو للصورة الواحدة. وتوجد منها الآلاف وبجودة عالية جدا تسمح بطباعتها على إطارات بمساحة أربعة أمتار مربعة.
ورغم هذا لا نرى كثيرا معارض الصور في الهواء الطلق. ليس في مجال الصور الأرشيفية التي تصالح المغاربة مع تاريخهم المشترك، ولكن أيضا بالنسبة للصور الحديثة التي يلتقطها يوميا مصورون مغاربة وأجانب.
الحمد لله على نعمة «الأنستغرام». فلولا هذه المنصة العالمية لما وجد الهواة والمحترفون المغاربة مكانا يعرضون فيه صورهم الإبداعية من مختلف مدن المغرب. وهؤلاء اليوم يكونون جيشا من ممارسي الدعاية المجانية تماما للسياحة المغربية حول العالم. إذ إن جل الزوار والمستكشفين يعتمدون على تقنية البحث البسيطة بأسماء الأماكن لكي يطالعوا الصور الاحترافية التي يلتقطها مصورون مغاربة، شبه عاطلين عن العمل وكلهم شباب، لكي يأتوا إلى المغرب.
ورغم كل هذا الفضل الذي لا يجب إنكاره لأصحاب الصورة، إلا أن ثقافة الاحتفاء بهم ومنحهم مساحات عامة لعرض صورهم وتمويل طباعتها على الزجاج أمام الإدارات والأماكن العامة والحدائق، لا تزال غير مُعترف بها في المغرب.
قد يقول قائل إننا نحتاج أولا إلى مراحيض عمومية في الأماكن العامة والحدائق، لكن يجب الإقرار أولا أننا نحتاج إلى تكوين من يعرفون استعمالها دون تكسيرها أو كتابة أرقام الهواتف والكلمات النابية فوق جدرانها.
لكن الواضح أن الأمر يبدو ثقافيا. إذ إننا نطلق على الأماكن العامة توصيف «الفضاء». وهذا ما يفسر أنها بعيدة عنا تماما ولا نستطيع رؤيتها إلا في الصور، ونحتاج سنوات ضوئية للوصول إليها.