شوف تشوف

الرأي

الفراسة علم أم دجل؟

خالص جلبي
(سر الأسرار) كتاب لأرسطو، وهو كتاب نادر له غير معروف بين الناس إلا أنه وقع تحت يدي، وخلاصته عجيبة تقول بقراءة النفوس من الوجوه، وأنا رجل أصدق بهذا نسبيا، كما أن لي رأيي الخاص في المنامات، والوجوه تحكي أشياء كثيرة؛ فتفرق السعادة من التعاسة، والخوف عن الطمـأنينة، والفرح من الحزن، فكلها معالم واضحة ترتسم على الوجوه؛ جزعا أم سرورا، ألما أم متعة، إنهاكا أم راحة، بل نحن الأطباء نتفرس في السحنة جيدا لمعرفة فقر الدم من ملتحمة العين واصفرار المقلة دليلا على إصابة الطرق الصفراوية التهابا أم سرطانا في رأس البنكرياس، وأتذكر جيدا رجل أمن مسود الوجه لم أعرف تفسيرا له سوى نفسه المملوءة بالذنوب من تعذيب الناس والتجسس عليهم وإيذائهم. وقرأتها في آية من القرآن «كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما»، مقابل الآية «وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة» أو «وجوه يومئذ باسرة تظن أن يفعل بها فاقرة». وحين كنت معتقلا لصالح الفرع 273 في الحلبوني بدمشق كان الجلاد أبو طلال يهرع إلي في نوبات صداع مخيفة، فأقرأ على رأسه من الذكر الحكيم فيهدأ. والعلم حتى اليوم لم يقل كلمته، ولكن تبقى هذه الأمور موجودة حتى يكشف العلم قانونها، كما كشف مثلا ارتباط حركة العينين السريعة في النوم (REM = rapid eye movment) حينما يترافق مع الحلم، وفي حديث لي مع زوجتي حول صحة ودقة هذا أنكرت وتعجبت، وأنا شخصيا أعرف هذا الموضوع جيدا، وفي القرآن يقول إن الناس يمكن كشفهم ليس فقط من تعبيرات الوجوه، بل من لحن القول «ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول». والقرآن يقول «سيماههم في وجوههم من أثر السجود»، والقرآن يقول عن يوم القيامة «يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام». فكلها دلالات عجيبة عن وجود لغة سرية صادقة غير التي ننطقها ويكذب فيها الناس لبعضهم بعضا، فيتظاهرون بالاشتياق والحب، وفي باطنها وحقيقتها النفور والكره، وهذا يدركه الكثيرون على نحو خفي. وأذكر يوما حين أجّرت بيتي في مونتريال لعائلة قادمة من مانيتوبا، فاجتمعت بها وبعدها أقسمت أن لا أراها إلا مضطرا، وليس كل من دخل بيتك واحدا، كل ذلك من اللغة الصادقة المختبئة تحت الكلمات وفي ثنايا التعبيرات، والقرآن وصف الوجوه وصفا معبرا، فقال «تغشى وجوههم قطعا من الليل مظلما»، فظلام الوجه ونورانيته يدركهما الناس من حيث لا يستطيعون التعبير، وفي السيرة أن رجلا جاء إلى النبي (ص) فقال هذا الوجه غير كذاب، وهناك من الناس من تقرأ في وجوههم نورانية خالصة وهدوءا رائعا، والطبيبة المصرية التي أحضرتها أوبرا، بعد نجاح الفريق المصري في فصل التوائم السيامية إلى برنامجها الذي تجني منه الملايين، قرأ الإنسان في وجهها الوداعة والطيبة والهدوء، كل ذلك ممزوج بالإيمان، هكذا كان انطباعي مقارنة بالأمريكية السوداء أوبرا التي يظهر عليه التمثيل، وهو ليس بجديد على نجوم الفضائيات الكذابين الممثلين. ويقول علم النفس إن العينين منفذ الروح، وفي كتاب أرسطو (سر الأسرار) مشى في طريق اعتبره ليس سليما، حين اعتبر أن ضيق العينين أو تقوسهما أو الوجنات وتجعدها وما شابه دليل على سوء الخلق، وهنا الخَلق (بالفتح) لايعني آليا (الخُلُق) بالضم، والصحيح أن البيولوجيا لها دور في الأخلاق، ولكن التربية تهذب الإنسان، والمهم هو ارتسام هذه المعاني من الروح على الوجه بطريقة ما، والطفل حينما يولد لا يعرف القراءة والكتابة، وقبل أن يدخل المرحلة الابتدائية يكون قد تشرب اللغة الفعلية بدون قراءة وكتابة، كل ذلك من خلال قسمات الوجه والتعبيرات ولحن الصوت، فمثلا كلمة تعال يمكن أن تأخذ نبرات مختلفة بين تعال العادية وأسرع أو حتى بين لا تأت، فهنا الكلمة انقلبت إلى ضد معناها، وهو شيء عجيب في اللغة، وهذا الأمر قد يختلط على الناس، فيظن أن كلمة أحبك تعني الحب، وقد تعني غير ذلك أو عكسها تماما، والحقيقة ليست في الكلمات أبدا، وهذا مبدأ هام خاصة في عالم السياسيين الذي يعتمد الكذب والتزويق واستخدام الكلمة بعكس معناها، حسب المصلحة التي يراها السياسي الكذاب، وهنا فالكذب مهنة كاملة، فهم لا يرون أن الإنسان حينما يكذب يكذب حقا بل هو لا يكذب، بل يتصرف أحدهم تحت المبدأ القائل: إن الكلمة لا تعني شيئا، وإن الكلمة تعني ضدها، وإن الكذب شرعة مبررة، مثل الهواء الذي يخرج من القصبات أو مكان آخر من الأمعاء فكله هواء. والقرآن اعتبر الكلام رسولا فاسقا أحيانا، فقال «إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا»، فليس كل الكلام صحيحا ولا مفيدا، والكلام يخضع لمجموعة من الأمراض اشتغلت عليه مدرسة البرمجة اللغوية العصبية، فقالت إن الكلام قاصر ويحمل المبالغة دوما فيجب الانتباه إلى الجملة وحوافها، فعندما يقول أحدنا الدنيا غالية فليس كل شيء غاليا، وحينما يقول ضرب أحمد عبد الله، فهو يسقط إحداثيات كاملة من الواقعة: لماذا ضرب؟ وبأي شيء ضرب؟ ومتى ضرب؟ وأين ضرب؟ وكيف ضرب؟ وما هو سبب الضرب؟ وإلى أي شيء قاد؟ وهذا يقودنا إلى القول بمقولات أرسطو العشر التي تحدد جملة القول، وهكذا فيجب التأكد من الجملة وحوافها، وكذلك لغة الوجوه التي لا تكذب في العادة، فهي تنطق لغة يمكن التأكد من ترجمتها، فليست الضحكة ضحكة، ولا البسمة بسمة، وهناك الابتسامة الصفراء والحمراء، ومن ضحك في وجوهنا قد يكون يضحك علينا وليس لنا، وهكذا؛ فهذه هي اللغة السيميائية الصادقة ويجب المراهنة عليها مع لحن التصويت، والكلمة مهما كانت عفوية وبسيطة فهي بحوافها قد تفشي سر صاحبها، وهو ما يقوله ابن حزم عن المحبين، إنه إذا ذكر أمام صاحبه اضطرب وتسارعت دقات قلبه ولو أنكر كل حب، وزلة اللسان قد تكون زلة وقد تكون خلفها حقيقة مخفية. والله يهدي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى