العين بصيرة واليد قصيرة
ارتفعت نسبة العزوبة بشكل مهول، وهذا راجع بطبيعة الحال إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وسياسية بالأساس، لا عوامل نفسية كما يرجح في الأوساط النامية. ولعل أقرب حليف للعزوبة البطالة، آفة ومعضلة العصر التي أرقت وأنهكت الكثير من أبناء جلدتي، فضلا عن شروط ومتطلبات الأصهار التي تستدعي خاتم سليمان، لأن في هذا الزمن الكل يبحث عن مصلحته الشخصية حتى وإن كانت بين كف الشيطان. ولم يعد أثر لذلك الزواج الذي حكى لنا عنه أجدادنا، «اقرأ الفاتحة وجر الفتاة بدل أن تظل تسحق الخبز في البيت»، فالأصهار أضحوا في حاجة إلى زوج يعتمدون عليه لا أن يحبهم ويقتسم معهم حجر السكن الضيقة ولقمة العيش، ويفضلون في كثير من الأحيان أصحاب السيارات الفخمة ذات الترقيم الأوروبي، وبارونات المخدرات حتى ولو كانوا مخططين بعلامات تجارية عالمية وسحنتهم أحلك من سحنة «عنترة». فلا سلطة أقوى من سلطة المال الذي يشتري كل شيء، خصوصا في هذه الرقعة السعيدة.
ولكي نشخص وضع البطالة بمجهر كليلو، يكفي أن نقوم بجولة أمام وكالات التشغيل، وبجولة أخرى أمام إحدى الشركات التي كلما طلبت عشرة عمال من ذوي كفاءات وشهادات تقنية وجامعية، تحج أمامها الآلاف لتجرب حظها.. وتكفي إطلالة سريعة في المواقع الإلكترونية لنرقب كم تحصد من بصمة وطلب شغل، ويكفي أن نحتسي شايا في مقهى «باليما» بالعاصمة لنعاين كم من الرؤوس العاطلة تنهال عليها الهراوات وترفسها الأحذية بلا جدوى، وكأن قدرها أن تدفع الضريبة وتدمغ بالعصا كالعبد.
فإذا كانت العزوبة في البلدان التي لا تفكر في الخبز مرتبطة بقناعات شخصية، من قبيل مواصلة التعليم أو النجاح المهني أو ميل للحرية والانحلال والهروب من القفص، أو بسبب عقد نفسية… فإنها في بلادي تئن تحت إكراهات اجتماعية واقتصادية وسياسية. وأبرز عامل يتمثل في العطالة..
فأول العتبات التي يستهل بها الأصهار الحديث تتمحور حول العمل، ويصعب إقناعهم من دون شغل مهما تم الاستنجاد بالذرائع والحيل، كما يصعب أن تقبل أسرة بتوريط نسلها مع عاطل، دائن ومدان؛ مدين للتكافل الأسري بالاحتضان والدعم، مدين للبقال وللرفاق بأعقاب السجائر… وحتى الذين ابتسم لهم الحظ مع شركات أجنبية تستغل وفرة اليد العاملة الرخيصة، وتمتص الدماء وسنوات طوال من الكد والتحصيل الجامعي، يجدون أنفسهم محاصرين بعقبات ثلجية تهد حماس وطعم الحياة، وتحول دون «إكمال الدين». الأهل يحلبون، والبنوك تحلب بقروضها النهبوية التي تستثمر في كل شيء؛ المهر، والسكن، وأثاث السكن، والسيارة العائلية.
أنى لجيلي الضائع بطيب العيش في زمن الفساد والقروش الفتاكة، الحاذقة في الكذب والتلفيق والوعود (إن شاء الله/ يكون الخير)، والزيادة في الأسعار وتوسيع الهوة بين المترفين والكادحين، وفي دعم مهرجانات العري والقبل والعناق.. وما خفي أعظم؟
هكذا بدأنا نسمع بأمهات عازبات وببرامج تشهر المنظمات الحقوقية أكثر من تشخيص الوضع المزري، وهكذا بدأنا نطالع في الصحف كوارث تستهل بحكايات أشعار امرؤ القيس وجميل بن معمر وغوايات هارون الرشيد في أرجاء المقاهي المظلمة وأركان الشواطئ والحدائق المورقة، ليتطور الأمر إلى البحث عن الحُجَرِ السطيحية. هكذا بدأنا نتشجع على التسيب والانحلال الخلقي ما دامت الدولة لا تشجع «الهاربين إلى الطاعة» بالعمل والاستقرار، هكذا نحول الحب إلى كراهية.. هكذا نشجع على إنشاء مجتمع فاسد، مجتمع مزيف؛ الرجل يعبث بالمرأة وينسّل في الأخير بجملة حواجز وإكراهات، وهي تلعب في رقعة شطرنج إلى حين تحصد شاة أو خيبة وانكسارات نفسية تجرفها نحو شوارع وأوكار بيع اللذة. هكذا تشجع الحكومة على فرنسة التعليم وتقاعد المراهقين البرلمانيين ولا تشجع على الزواج.
هكذا نخلص إلى أن العزوبية في قاموسها الضمني تعني العطالة، التي تحيلنا مباشرة على معنى الفقر والتهميش والضياع، أي بالمعنى الأصح، السياسة الفاشلة التي تجرفنا نحو الهاوية، تقود مركبها إلى بر الأمان وتغرق أولاد الشعب الباقين ممن لم يركبوا قوارب الموت على إيقاع دبدبات ويلات فاتح الأندلس، الذين وئد فيهم حلم المهندس والمدرس والإعلامي والطبيب والخيميائي… ولفظة «بابا».