العميد سمير القنطار الذي عرفته..
عندما يحاول الطيران الاسرائيلي وصواريخه اغتيال العميد سمير القنطار أكثر من ست مرات، وينجح في السابعة، فهذا يعني أمرين أساسيين: أن الرجل الشهيد كان يشكل خطرا كبيرا على المشروع الاسرائيلي، وأن المقاومة العربية والإسلامية ضد هذا المشروع ما زالت مستمرة، وتتصاعد، رغم عمليات التطبيع المتصاعدة، والفوضى الدموية، والفتن الطائفية والعرقية، والتدخلات العسكرية الأجنبية، ولجوء البعض من العرب إلى اسرائيل كحليف يمكن الاعتماد عليه في مواجهة الخطر الإيراني.
العميد سمير القنطار طلب الشهادة عندما انضم إلى صفوف المقاومة الفلسطينية، وعمره لا يزيد عن سبعة عشر عاما، ولكنها تأخرت عليه ما يقرب من السبعة والثلاثين عاما، قضى ثلاثين عاما منها في الأسر، والسبعة المتبقية لتثوير جبهة الجولان السوري العربي المحتل، وإشعال المقاومة فيها. ولا نبالغ إذا قلنا إن تلاميذه، بل بالأحرى، رجاله سيكملون المسيرة من بعده، وسينضم إلى «أكاديميته» الكثيرون.
التقيت الشهيد سمير القنطار للمرة الأولى قبل ست سنوات تقريبا في أحد مطاعم بيروت المطلة على البحر، بدعوة من الزميل الصديق غسان بن جدو، بعد مشاركتي في حلقة من برنامجه الشهير الناجح «حوار مفتوح»، الذي كان يقدمه مساء كل يوم سبت على شاشة قناة «الجزيرة». كان من بين الحضور زوجته الفاضلة، التي اقترن بها بعد تحريره من السجن الاسرائيلي، وكان شاهد عقد قرانه السيد حسن نصر الله، مثلما علمت حينها. وجاء من يهمس بأذني بأنه يحمل رتبة كبيرة في صفوف المقاومة، ويتولى تنفيذ مشروع كبير.
فاجأني «العميد» القنطار الذي لم تفارق الابتسامة وجهه البشوش طوال اللقاء، بقوله إن المقاومة لن تنتظر الهجوم الاسرائيلي والتوغل في الأرض العربية بالتالي، بل ستبادر هي بأخذ زمام المبادرة والتوغل في الأرض المغتصبة، وتحريرها، أو أجزاء منها.
كان في قمة التواضع، ولم يقل مطلقا أنا فعلت كذا، وأنجزت كذا، ويتأسف طوال الوقت لأنه لم يكن من بين شهداء العملية التي نفذها ورفاقه ضد الاسرائيليين، وذكر أكثر من مرة في اللقاء نفسه أنه سيعود إلى فلسطين التي عشقها وترابها مقاوما وشهيدا، وقد استحق هذه الشهادة اللائقة به وتاريخه العريق في المقاومة، استحقها، وهو يخطط لتحويل هضبة الجولان المحتلة مقبرة للغزاة والمحتلين مع مساعديه ورفاقه، مثلما كان يؤكد دائما، ويعمل بصمت بعيدا عن الأضواء من أجل هذا الهدف.
ربما يكون الاسرائيليون نجحوا في اغتيال العميد القنطار، ولكنهم سيدفعون ثمنا باهظا لهذه المغامرة غير المحسوبة، لأن الانتقام قادم لا محالة، فكلما كبر حجم الشهادة، كبر مفعولها، وكبر حجم الانتقام لها، وهذا ما علمتنا إياه تجارب الأعوام والأشهر الماضية، فهناك رجال إذا عاهدوا صدقوا.. وإذا توعدوا بالانتقام ينفذونه، طال الزمن أو قصر.
توقيت هذا الاغتيال الذي جاء بعد ساعات من صدور قرار مجلس الأمن الدولي بوضع خريطة طريق للتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، يشكل «صفعة» للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولنجاحه في فرض شروطه على الجميع، ومنع أي إشارة في القرار لرحيل الرئيس السوري بشار الأسد، ومحاولة لإفساد هذا الانتصار السياسي والدبلوماسي، أو هكذا نفهمه.
الذين تساءلوا على صفحات شبكات التواصل الاجتماعي بقولهم أين الصواريخ الروسية الحديثة من طراز «إس 400» و«إس 300» وعن عدم تصديها للطائرات الاسرائيلية التي نفذت عملية الاغتيال، محقين في تساؤلاتهم وانتقاداتهم، فقد تصور الكثيرون، ونحن من بينهم، أن شبكات الصواريخ هذه ستشكل نقطة تحول استراتيجي في موازين القوى في المنطقة، وتضع حدا للعربدة والغارات والانتهاكات الاسرائيلية للأجواء السورية.
أعجبني شخصيا أحد المعلقين الذي وصف هذه الشبكات الصاروخية الروسية بأنها «حولاء»، لا ترى الانتهاكات الاسرائيلية، أو بالأحرى، لا تريد أن تراها، وآمل شخصيا أن لا يكون الحال كذلك، وأن نرى ردا روسيا قويا على هذا الاستفزاز الاسرائيلي، الذي يريد إفساد الانتصار الروسي الكبير في مجلس الأمن الدولي، وقراره الصادر بشأن سورية، فلا بد من التريث قبل إصدار أي أحكام غاضبة ومتسرعة تجاه عدم الرد الروسي الذي لم يصدر حتى كتابة هذه السطور.
الأمر المؤكد أن هناك اختراقا أمنيا اسرائيليا لوحدة المقاومة التي كان يقودها الشهيد لتحرير الجولان، يتمثل في توصل الاسرائيليين إلى المعلومات كاملة حول تحركاته، ومقر إقامته، أو الشقق التي يتردد عليها، تماما مثل اختراق مماثل لتحركات الشهيد الحاج عماد مغنية في قلب دمشق، الأمر الذي يتطلب تحقيقا جديا لمعرفة كيفية حدوث هذه الاختراقات.
لسنا مع الجدل الدائر حاليا الذي يحاول تبرئة الروس وصواريخهم الحديثة، وتقصيرهم في التصدي للطائرات الاسرائيلية الذي يقول إن الطائرة التي نفذت عملية الاغتيال أطلقت صاروخها القاتل وهي تحلق فوق الجولان، ولم تخترق الأجواء السورية بالتالي، المهم أن عملية الاغتيال تمت فوق الأرض السورية، وفي منطقة جرمانة القريبة من دمشق، وأن تنفيذها جاء إحراجا وإهانة مزدوجتين لكل من روسيا أولا، والسلطات السورية ثانيا، وأي تبرير غير مقبول.
نحن مع القول العربي الشهير «قد يأتي الخير من باطن الشر»، ولعل هذه الشهادة الكبيرة لرجل كبير أحب أمته وعقيدته، مثلما أحب فلسطين، تغير الكثير من السياسات الحالية، خاصة السياسة الروسية تجاه اسرائيل، وتلقن تل أبيب درسا انتقاميا لن تنساه مطلقا، تماما مثلما لم تنس هزيمتها الكبرى أثناء حرب عام 2006، وكل حروبها في قطاع غزة.
اسرائيل ستواجه أياما صعبة، وستكون الخاسر الأكبر في نهاية المطاف، وما تعيشه حاليا هو أمن كاذب وانتظار لعاصفة تتجمع قواها، فمناعتها ضد العنف والمقاومة ضعيفة، واقترب عمرها الافتراضي من نهاية صلاحيته، وما يجري في سورية والمنطقة من صدامات دموية ستفيض عليها إن آجلا أو عاجلا.. والأيام بيننا.