العمى التاريخي
جاء في كتاب وجهة العالم الإسلامي لمؤلفه المفكر الجزائري مالك بن نبي ما يلي ص (200 – 203): (لقد قام تيمورلنك في الواقع بعمل لم يكن يستطيع إدراكه حتى بعد انتهائه منه، لأن مغزاه التاريخي الحق لا يمكن أن يظهر إلا بعد عدة قرون. إن مسألة كهذه قد تتركنا مشدوهين بحجة أنها ذات طابع ميتافيزيقي، ولكنا لكي نعطي للأحداث تفسيراً متكاملاً يتفق مع مضمونها كله يجب ألا نحبس تصورنا لها في ضوء العلاقات الناتجة عن الأسباب، بل ينبغي أن نتصور الأحداث في غايتها التي انتهت إليها في التاريخ، ومن هذا الجانب قد يلزمنا أن نقلب المنهج التاريخي، فنرى الظواهر في توقعها بدلاً من أن نراها في ماضيها، ونعالجها في نتائجها لا في مباديها، فلكي نفهم ملحمة تيمورلنك ينبغي مثلاً، أن نسأل أنفسنا: ماذا كان يمكن أن يحدث لو أتيح لطغطاميش أن يحتل موسكو، ومن بعدها وارسو؟ ولو قدر لبايزيد أن ينصب رايته على أطلال فيينا، ثم على أطلال برلين؟ لو حدث هذا لأذعنت أوربا حتماً لصولجان الإسلام الزمني المنتصر، ولكن ألا يدفعنا هذا إلى أن نرى توقعاً مختلفاً تمام الاختلاف عما حدث فعلاً كان سيحدث في التاريخ؟ كانت النهضة الأوربية التي مازالت في ضمير المقادير ستنصهر في (النهضة التيمورية) ولكن هاتين النهضتين – على الرغم من عظمهما – كانتا مختلفتين، فلم يكن مغزاهما التاريخي واحداً، فلقد كانت الأولى فجراً يفيض على عبقريات جاليلو وديكارت وغيرهما، بينما كانت الأخرى شفقاً يغلف الحضارة الإسلامية لحظة أفولها. كانت إحداهما بداية نظام جديد، وكانت الأخرى نهاية نظام دارس، وما كان شيء في الأرض يستطيع أن يدفع عن العالم الليل الذي أخذ يبسط سلطانه آنئذ على البلاد الإسلامية في هدوء، فلو أن تيمورلنك كان قد اتبع دوافعه الشخصية لما استطاع شيء أن يحول دون نهاية الحضارة الإنسانية. فهناك حسب تعبير إقبال (خطة للمجموع) هي التي تكشف عن اتجاه التاريخ.
لماذا حال تيمورلنك دون قيام بايزيد وطغطاميتش بنشر الإسلام في قلب أوربا؟ الجواب لكي تتابع أوربا المسيحية جهدها الحضاري الذي لم يكن العالم الإسلامي بقادر عليه منذ القرن الرابع عشر، حيث كان في نهاية رمقه، فملحمة الامبراطور التتري تجلو غاية التاريخ، إذ كانت نتيجتها متطابقة مع استمرار سير الحضارة ودوامها، كيما تتعاقب دوراتها، ويتم الكشف الخالد عن العبقريات التي تتناوب على طريق التقدم. (فإن سيف تيمورلنك هو الذي شق الطريق أمام الحضارة الغربية الوليدة وسط أخطار الغروب التي كانت تخيم على العالم الإسلامي، فهل يمكن في ظروف كهذه أن نتحدث عن نوع من (العمى)؟ وألا يمكن أن نرى في ذلك أمارة على نوع من التجلي العلوي وراء تصرفات تيمورلنك؟) اهـ.
رؤية التاريخ بشكل ديناميكي: لابد من الذهاب إلى بطن التاريخ لنقرأ تاريخ العلم، ليس مجزءاً ميتاً بل مرتبطاً بالأحداث الكونية العظمى، فالحياة تأبى أن تمشي إلا كياناً حياً مترابطاً.
علينا أن نتمتع بعقلية مزدوجة واحدة على (التراث) والأخرى على (المعاصرة). إننا يجب أن نرسخ قاعدة (إذا لم نعرف نحن أين فلا يمكن التوجه إلى أين).
أين ما كنتَ مالم تُحدد الإحداثيات فلا يمكنك أن تتوجه للمكان الجديد. ونحن مالم نحط بالتطورات التي حدثت وبأحدث المعلومات، ومالم ندرك إضافات المعرفة الإنسانية وذيولها الفلسفية، فلا يمكن أن نساهم فضلاً عن التفوق وتقديم الجديد.
إن القرآن نسخ (العقلية الآبائية) وهو الذي طبقه رواد البحث العلمي في الغرب (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون).
إن العقلية الإبراهيمية هي تلك العقلية الفذة التي تخاطب: (قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين) إن عقلية من هذا النوع وفي هذا الشكل من التحرر العقلي لم تستطع حتى النار التأثير فيها (قلنا يا نار كوني بردا وسلاماً على إبراهيم).
خلفية انهيار الفكر الآبائي في أوربا: كانت الصفعة الأولى للفكر التقليدي الآبائي هي محاولة كوبرنيكوس فهم الكون على نموذج جديد، وبذلك خطا العلم خطوته الجريئة الأولى. ومن الغريب أن نموذج الكون الذي كانت الكنيسة قد تبنته من العالم اليوناني القديم (بطليموس) لا يوجد له نص واضح في العهد القديم أو الجديد، كل ما في الأمر أنه يسند تأويلات معينة للنص عندهم، وتفعل الكنيسة الآن نفس الغلطة مع التطور العلمي الجديد. ولم تستفد من درس التاريخ، فهي قد تبنت الآن نظرية (الانفجار العظيم BIG BANG THEORY) التي سوف نخصص لها مقالة كاملة لأهميتها العلمية والفلسفية) فهي مازالت في طور النظرية.
وكانت الصفعة الرائعة الثانية للعقلية (الآبائية) هي التي جاءت من طاولة (أوتو هان العالم الكيميائي الألماني) OTTO HAHN المتواضعة حيث أمكن التخلص من التراث اليوناني ومن مسلمة (الآتوم) ومعناها اليوناني الجزء الذي لا يتجزأ (ATOM)، حين أمكن شطر الذرة والدخول إلى العالم الفيزيائي الجديد ثم الانتقال منه إلى الفيزياء دون الذرية وبناء العلم الجديد (ميكانيكا الكم) ثم توليد قانون (الارتياب) منه في مستوى العالم الصغير. والآن يكرر العلم نفس الشيء حين يوجه الضربة القاضية للفيزياء التقليدية الكلاسيكية، تلك التي دشنها نيوتن وعصر نيوتن من عقول العشرات من العلماء الذين دشنوا العلم التجريبي، من أمثال بيكون وغاليليه وديكارت وليبنتز وباسكال وتوريشيلي وأفوكادرو وكبلر. حيث يبنى صرح الفيزياء اليوم على النسبية العامة التي أطلقت علم الكوسمولوجيا (COSMOLOGY) الحديث، وميكانيكا الكم (QUANTUM THEORY) التي أطلق ثورة الإلكترونيات. بل إن أعظم جهد علمي وأكبر تحدّ يواجه العلماء هو في محاولة دمج النسبية العامة مع ميكانيكا الكم بحيث يمكن الخروج بنظرية توحيدية لفهم الكون ذي القوة أربعين، أي الصعود للأعلى بعشرة قوة 24 والنزول إلى الأسفل بعشرة قوة 16 (10 مضروبة في 40) وهي حواف الكون الأصغر (MICROCOSMOS) والكون الأكبر (MACROCOSMMOS) الذي نستطيع معرفته في الوقت الراهن. حيث تم الكشف عن مائة مليار مجرة (GALAXY) من أمثال مجرة الطريق الحليبي (MILK WAY) التي نعيش فيها والتي تضم بدورها حوالي مائة مليار نجم مشع مثل الشمس التي تمدنا بالضوء والدفء منذ ما يزيد عن خمسة مليارات سنة ومرشح لها أن تعيش بنفس الكمية من الزمن، مع العلم أن الحياة الإنسانية الفعلية ممثلة في الثورة الزراعية لم تبدأ إلا قبل عشرة آلاف سنة. فماذا ينتظر الإنسان بعد عشرة آلاف سنة يا ترى؟
حوار الله والملائكة: لقد حصل حوار في القرآن بين الله والملائكة حيث رأت الملائكة في هذا الكائن أنه مجرم قاتل مدمر مفسد!! (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) فالإنسان كائن لا ينتظره مستقبل! بالطبع رأت الملائكة في الإنسان ما رآه موسى في عمل الرجل الصالح المحكي عن قصصه العجائبية ومغامراته اللامعقولة، حين قفز موسى مخالفاً كل شروط اللعبة: إلى أين أنت ذاهب وما الذي تفعله؟ مع أن قواعد اللعبة واتفاق الرحلة كانت السكوت فلا سؤال، والتأمل فلا اعتراض، وثالثاً أنا الذي سأشرح كل شيء لك لاحقاً. إلا أن الواقع أكبر أمام ما يحدث فهو حيناً يثقب (يفسد) السفينة التي يبحر فيها الناس ويعرضهم للغرق! وبعد حين يقوم بقتل طفل لا ذنب له ظاهرياً، فكيف يمكن لموسى أن يستوعب البانوراما الكونية كلها ليدرك أن حكمة هائلة خلف هذا المنظر المرعب، وأن صلاحاً كبيرا ً خلف هذا الفساد الظاهري (يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا)؟!
لذا كان جواب الله للملائكة أنه عنده من العلم عن طبيعة هذا الكائن غير المنظر الخارجي له، والعبث الصبياني، والإفساد غير المبرر، والقتل النافي للحياة، لأن هناك نضجاً ينتظره، وكمالات في طريق رحلة الصعود
(إني أعلم ما لا تعلمون) وهي كلمات لا أكثر تحمل اللغز الإنساني.