شوف تشوف

ملف التاريخ

العلماء المغاربة المنفيون

نقلتهم فرنسا قسرا لعزلهم عن مدنهم

يونس جنوحي

سكان فاس مثلا، رفعوا سنة 1920 عريضة يطالبون فيها فرنسا بعدم التدخل في تغيير مجرى وادي فاس، الذي يعتبر ملكا للمواطنين المغاربة، إلا أن الإدارة الفرنسية كانت قد حاولت تغيير مجراه، لكي يستفيد منه سكان الحي الفرنسي في المدينة. وهو ما كان يتم سرا في عهد «ليوطي»، وبصورة جزئية فقط. لكن في عهد المقيم العام «ستيغ» تحول الأمر إلى استغلال كامل وصريح لمجرى وادي فاس، حيث جاء مهندسون فرنسيون وحولوا مجرى الوادي الذي يزود أكثر من نصف أحياء فاس العتيقة بالمياه لقرون، لكي يصب في ناحية الحي الفرنسي، ويزود منازل وفيلات المقيمين الفرنسيين الجدد في فاس بماء الشرب.
هذه الواقعة تسببت في حالة من السخط الشعبي، حيث تجمع الناس للاحتجاج برعاية من علماء من جامع القرويين، الذي كان نقطة انطلاق المظاهرة التي كانت من أولى الحركات الاحتجاجية ضد فرنسا في تاريخ المغرب.
وهكذا بدأت فرنسا تخطط للتخلص من هؤلاء العلماء، الذين أججوا الرأي العام ضد سياستها في المغرب.

ليوطي والعلماء.. سوء الفهم الكبير
منذ سنة 1912 إلى حدود 1925، والمقيم العام المارشال ليوطي في منصبه بالمغرب. أطول مدة مكثها مقيم عام فرنسي في الرباط، كانت فترة جلوسه في مكتب رئاسة الإقامة العامة. إذ إن الذين جاؤوا بعده لم يمكثوا سوى ولاية واحدة، ولم تتعد تجربتهم بضع سنوات، قبل أن يتم استبدالهم بآخرين، تارة للتشديد على المغاربة، وتارة أخرى لإحلال الهدنة مع الوطنيين حتى لا تنفجر الأوضاع.
ما ميز فترة ليوطي أنها كانت تعمل بسياستين متوازيتين، الأولى كانت تُظهر الصداقة للمغاربة، وتحاول جعل الفرنسيين ضيوفا على المغرب، بموجب اتفاقية الحماية. والثانية كانت تقوم على أساس التطهير لكل ما هو مغربي، وإحلال نخبة فرنسية جديدة تقود البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا أيضا.
وبين السياستين لم يكن هناك موقف وسط.
أوائل المغاربة الذين كشفوا هذا التلاعب الذي قام به المقيم العام ليوطي وهندسه شخصيا، هم نخبة من علماء القرويين وأعيان مدينة فاس ومدينة سلا وعلمائها، الذين كان لديهم حس وطني كبير.
هؤلاء العلماء، منهم من درس في الشرق وآخرون درسوا في المغرب، لكنهم سجلوا لما أسماه المختار السوسي لاحقا «النبوغ المغربي».
كان ليوطي معاديا لهؤلاء بطريقة غير معلنة في البداية، ثم سنة 1915 تحول الأمر إلى إجراءات تعسفية في حق هؤلاء العلماء، الذين سوف نأتي إلى ذكر سيرتهم.
لكن بعد سنة 1925، ومع مجيء مقيم عام آخر جديد، احتدمت الأوضاع وأصبح المغاربة أمام مواجهة مباشرة مع الإدارة الفرنسية.
أحد هؤلاء العلماء، وهو القائد عبد الله بن سعيد، ابن أحد كبار المسؤولين المخزنيين في أيام دولة المولى محمد بن عبد الرحمن، وتعرض لحيف كبير على يد أعوان ليوطي، إلى درجة أنه راسله من منفاه، كما سوف نرى لاحقا في هذا الملف، وكانت قضيته من أوائل قضايا الرأي العام وحرية التعبير التي تفجرت في المغرب، رغم أن المثقفين الفرنسيين والصحافيين الأوائل لم يعيروها أي اهتمام.
ما وقع أن إدارة ليوطي حكمت على هذا العالم المغربي بالنفي خارج سلا، التي كان يتمتع فيها بشعبية كبيرة جدا، بسبب خطبه ومواقفه الوطنية الرافضة للسياسة الفرنسية في المدن المغربية، خصوصا بفاس، حيث سنت الإقامة العامة مجموعة من الإجراءات لصالح الرعايا الفرنسيين في المدينة، على حساب حياة المغاربة الأصليين من سكان المدينة.
نُفي هذا العالم بداية إلى الجديدة، للتضييق على أنشطته، لكنه عاش هناك لسنوات وتعرف على نخبة علماء المدينة، وهو ما جعله يكتب رسالة إلى ليوطي يتظلم فيها مما لحقه من الإدارة الفرنسية، ويطلب السماح له بالعودة إلى داره في سلا.
لكنه عند عودته إليها سنة 1919، نفي مرة أخرى إلى وجدة هذه المرة.
ومن كواليس المنفى الثاني، حسب ما نقله الزعيم الوطني أبو بكر القادري وهو يتناول سيرة هذا الرجل، القائد عبد الله بن سعيد، أن هذا الأخير رُحل من طرف البوليس الفرنسي سنة 1921 إلى دار الصبيحي في سلا، والذي كان باشا المدينة، استعدادا لنفيه خارج المدينة وإبعاده إلى وجدة، أبعد نقطة وقتها في المغرب.
لكن المثير أن القائد بن سعيد خلق الحدث ورفض التوقيع لموظفي الإدارة الفرنسية وعساكرها، واشترط عليهم أن يحصل على قرار النفي موقعا من طرف السلطان، وليس من طرف الإدارة الفرنسية. وهو موقف وطني حُسب له، حيث تعاطف معه المولى يوسف كثيرا، وتأسف لنفيه من طرف الإدارة الفرنسية. وعلى كل لم يستمر نفيه في وجدة سوى عامين، لكي يتم السماح له بالعودة إلى سلا، وكان وضعه الصحي وقتها قد تردى كثيرا، ليتوفى في العام نفسه الذي سُمح له فيه بالعودة إلى مدينته، التي بدأ فيها كفاحه الوطني ضد سياسات ليوطي في المغرب.

سلا.. المدينة التي أنجبت الوطنيين المنسيين قبل 1909
في الوقت الذي كانت فيه السياسة المغربية تُصنع في فاس، كان التعليق عليها يتم في سلا. والسبب أن هذه الأخيرة كانت تضم نخبة من العلماء المغاربة، الذين كانت لديهم مواقف مناهضة للاستعمار، وكان يستغيث بهم أهل فاس وعلماؤها للتضامن معهم، سيما في المواقف التي سجلت وقوع وفيات في صفوف المغاربة، بعد أولى المظاهرات التي طالبت برحيل فرنسا عن المغرب.
إذ إن نقل العاصمة إلى الرباط بعد أن كانت فاس عاصمة للمملكة، كان بمثابة رصاصة في صدور كل الفاسيين الذين طالما تغنوا في كتاباتهم بأفضلية فاس على باقي المدن.
هذا الوضع أدى إلى ظهور الاحتجاجات في فاس، لكن سرعان ما أخمدتها الإدارة الفرنسية بفرض عقوبات زجرية على المشاركين.
لكن في سلا، كان الوضع مختلفا كثيرا. يُذكر أيضا أن بعض علماء سلا وشخصياتها يتحدرون من فاس، وعمل أجدادهم في المناصب المخزنية هناك، قبل أن ينزحوا إلى سلا في ظروف خاصة، أيام المولى الحسن الأول وقبلها أيضا. وهو ما جعلهم يتضامنون من سلا مع أهل فاس، ويخرجون في مظاهرات مستنكرة لما يقع.
وطنيون مغاربة كبار مثل محمد بن الحسن الوزاني وأبو بكر القادري وغيرهما، كلهم تناولوا موضوع الحركة الوطنية في سلا، واعتبروا أنها امتداد لأولى الاجتماعات التي عقدها الوطنيون في فاس، لاستنكار الوجود الفرنسي في المغرب وتبعات توقيع معاهدة الحماية.
لكن أهل سلا كانوا يقفون فوق صفيح ساخن، خصوصا سنة 1915 عندما بدأت سياسة تعسفية جديدة في مدينتهم، ترمي إلى إبعاد كبار الشخصيات الوطنية، ومنهم مقربون من القصر الملكي، ولم يفلحوا رغم مكانتهم الاعتبارية في البقاء بعيدا عن «جرافة» فرنسا التي كانت تهدم كل ما يقف أمامها.
في هذا المناخ الضبابي، ظهرت الحركة الوطنية في سلا، حيث نزح إليها المزيد من الفاسيين، ولم يكن يضاهيهم في نضالهم سوى أهل مراكش، الذين أرخ لهم وطني آخر هو المختار السوسي، ليصبح المغرب وقتها يتوفر على مثلث للمقاومة الفكرية ضد الاستعمار. لكن المشكل أن رؤوس هذا المثلث (فاس، سلا، مراكش) طالها النسيان، رغم التضحيات الكبيرة التي قدمتها لائحة طويلة من الأسماء المغربية التي برعت في العلوم ونافست الشرق، ومورس عليها تضييق كبير في المغرب من طرف الإدارة الفرنسية، حتى لا تنتقل عدوى الوطنية منها إلى بقية المغاربة.
المُقيم ستيغ.. الاستعماري الذي سقط سهوا من الذاكرة
السيد «ستيغ» كان هو ثاني مقيم عام تعينه فرنسا في المغرب، جاء بعد ليوطي ليرث الإدارة الفرنسية بأطرها وبناياتها الأنيقة ورعاياها الفرنسيين، فوق التراب المغربي. لكنه لم يحظ بالشهرة نفسها لـ«ليوطي»، رغم أنه قدم خدمات «جليلة» للإدارة الفرنسية في الرباط، وفي باريس. وهناك من يصنفه بأنه «مزاجي أكثر عنفا من دبلوماسية ليوطي».
أحد كبار الوطنيين الذين تطرقوا إلى فترة المقيم العام «ستيغ» وتناولوها بالتشريح، هو الزعيم السياسي محمد بن الحسن الوزاني. إذ تحدث عنه في مذكراته «حياة وجهاد»، وقال إن وصوله، أي المقيم «ستيغ» إلى السلطة سنة 1925، كان بداية عهد تحول في السياسة الفرنسية.
ويواصل بن الحسن الوزاني قوله إن خطة «ستيغ» كانت مناقضة تماما لما التزم به سلفه المقيم العام ليوطي، من عدم السماح للفرنسيين بأن يعيشوا في المغرب، كما لو أنهم في أراض فرنسية.
وصف الوزاني عهد المقيم العام «ستيغ» بأنه عهد انكشاف النوايا الاستعمارية، إذ رخّص هذا المقيم العام للفرنسيين في المغرب، لكي يفتحوا فروع الأحزاب الفرنسية وحتى النقابات التابعة لبلادهم، كما لو أنهم أصبحوا يعيشون في مقاطعة فرنسية. حدث هذا في وقت مُنع الوطنيون المغاربة من إنشاء جمعيات، أو حتى «تجمعات» خيرية ترعى المغاربة واحتياجاتهم، ورخصت في المقابل لكل الفرنسيين في المغرب بتأسيس فروع جمعيات توجد مقراتها بفرنسا، بل ورخصت لفروع الأحزاب المعروفة في فرنسا لكي تفتح مكاتبها في المغرب وتنظم أنشطتها الحزبية. وهذه الأنشطة كانت تتم على هامش التشريع المنظم للجمعيات، أي أن أنشطتها، كما يصفها محمد بن الحسن الوزاني، لم تكن قانونية.
هذه الفترة، خلال النصف الأول من عشرينيات القرن الماضي، لم يسلط عليها ما يكفي من الضوء، رغم أنها كانت دموية وعنيفة، وقمعت حريات المغاربة، ورسخت للأفكار الاستعمارية.
سكان فاس مثلا، رفعوا سنة 1920 عريضة يطالبون فيها فرنسا بعدم التدخل في تغيير مجرى وادي فاس، الذي يعتبر ملكا للمواطنين المغاربة، إلا أن الإدارة الفرنسية كانت قد حاولت تغيير مجراه، لكي يستفيد منه سكان الحي الفرنسي في المدينة. وهو ما كان يتم سرا في عهد «ليوطي» وبصورة جزئية فقط. لكن في عهد المقيم العام «ستيغ» تحول الأمر إلى استغلال كامل وصريح لمجرى وادي فاس، حيث جاء مهندسون فرنسيون وحولوا مجرى الوادي، الذي يزود أكثر من نصف أحياء فاس العتيقة بالمياه لقرون، لكي يصب في ناحية الحي الفرنسي، ويزود منازل وفيلات المقيمين الفرنسيين الجدد في فاس بماء الشرب.
هذه الواقعة تسببت في حالة من السخط الشعبي، حيث تجمع الناس للاحتجاج برعاية من علماء من جامع القرويين، الذي كان نقطة انطلاق المظاهرة، التي كانت من أولى الحركات الاحتجاجية ضد فرنسا في تاريخ المغرب.
وكانت هذه الواقعة إشارة إلى الإدارة الفرنسية التي بدأت تضيق على العلماء والمتعلمين، الذين كانوا «يحرضون» الناس على التظاهر ضد فرنسا، ويوقظون فيهم الحس الوطني، ويفتحون أعينهم على الممارسات الاستعمارية التي كانت تتم سرا في عهد ليوطي، ثم جاء «ستيغ» لكي يمارسها في العلن.
الوطنيون المغاربة الذين بدؤوا هذه الحركات الاحتجاجية، كان بعضهم من معارف السلطان محمد بن يوسف، وبعضهم اشتغلوا سابقا كتابا في الدواوين، عندما كانت فاس عاصمة إدارية للمغرب. لكن مع انتقال السلطة إلى الرباط على عهد مولاي يوسف بعد سنة 1912، بقي أغلب أولئك الأطر في فاس، وعادوا إلى القرويين للاشتغال إما في التدريس، أو في رعاية المكتبة ونسخ المخطوطات، وكانوا ينظمون حلقات علمية داخل الجامع. ومع تغير الوضع السياسي وظهور خطورة سياسة المقيم العام الجديد، السيد «ستيغ»، انخرط هؤلاء العلماء في العمل الوطني مبكرا، سائرين على نهج العلماء المغاربة الأوائل الذين حاربوا فرنسا منذ سنة 1907 وقبلها بقليل. وما زاد من قوة نشاطهم، تأثرهم بما كان ينشر في الصحافة المصرية عن العمل الوطني والوحدة العربية، والدعوة إلى محاربة الاستعمار الغربي في الدول العربية، حيث كان يصل صدى تلك الصحف إلى المغرب، ويتداولها الوطنيون المغاربة سرا.
المقيم العام ليوطي حاول التعامل مع هؤلاء بمرونة منذ تعيينه سنة 1912 في منصبه، لكن مع مجيء خلفه «ستيغ» حدث تحول في السياسة الفرنسية. وبعد انتهاء ولايته، سقط سهوا ولم تكرمه الصحافة الفرنسية، رغم أنه أسدى خدمات «استعمارية» كبرى لفرنسا.

المسفيوي.. حاربته فرنسا وعاش حياته متنقلا ومُعذبا
محمد المسفيوي أحد كبار علماء الفلك المغاربة، الذين كرمتهم جامعة «كامبريدج» المرموقة سنة 1985، وصنفته في لائحة العلماء الذين وثقوا لأرشيف مهم، ساعد العلماء على التعامل مع قواعد الحساب الفلكي، التي نبغ فيها العلماء المسلمون، قبل قرون. ولولا انكباب محمد المسفيوي منذ سنة 1925 على المخطوطات التي وجدها في خزانة والده، والتي يعود تاريخها إلى ثلاثة قرون خلت، لضاع على علماء الفلك أرشيف مهم من الأبحاث الفلكية وطرق الحساب الفلكي القديمة.
هذا العالم عاش لحظات فرض الحماية الفرنسية على المغرب، وكان من كبار الرافضين لها، وكان متأثرا بالشرق إلى درجة أنه غادر المغرب صوب مصر، لكي يقابل علماء القرويين ويتم بحثا في علم الفلك كان يشتغل عليه، استجابة لطلب أحد إخوته الذي كان يعيش في مصر، وعرض عليه المجيء لكي يقارع المشارقة في هذا العلم، ويعرض عليهم مخطوطات مكتبة والده.
بعد ذلك عاد إلى المغرب مشبعا بالحس الوطني والأفكار التحررية، وهو ما خلق له متاعب مع الإقامة العامة، في بداية أربعينيات القرن الماضي.
إذ سجل البوليس الفرنسي اسمه في اللائحة السوداء للوطنيين المغاربة سنة 1933، وكانت تلك بداية التضييق الذي تعرض له، إذ منعت محاضراته أمام مئات طلبة العلم، الذين كانوا يتلقون على يديه دروسا في علم الفلك وفي الشريعة.
ونفي إلى خارج مراكش، بإيعاز من الحاكم الفرنسي، الذي اتهم المسفيوي رفقة علماء آخرين بقيادة تمرد ضد فرنسا، انطلاقا من المساجد. لكن مدة نفيه لم تطل، إذ حاولت الإقامة العامة عقد هدنة مع العلماء، وسمحت له بالعودة إلى منزله والمسجد الذي كان يلقي فيه الدروس. وعاش بمراكش آخر سنوات حياته، ثم توفي بها سنة 1949، تاركا خلفه إرثا حقيقيا من المخطوطات. لكن قلة فقط كانوا يعرفون بأمر أنشطته الوطنية، ومقاومته للاستعمار الفرنسي.
وتناول العالم الكبير، المختار السوسي، أجواء اشتغال علماء مراكش ونشرهم للوعي الوطني في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، والتهديد الكبير الذي تعرضوا له على يد موظفي الإدارة الفرنسية، الذين أصدروا قوانين للتضييق على أنشطة الوطنيين، والدروس التي يلقونها وقتها بالمساجد ودور تحفيظ القرآن الكريم، أي المدارس العتيقة، خصوصا في منطقة سوس، حيث كانت تلك المدارس تلقن مزيجا من العلوم الشرعية وحفظ القرآن الكريم، بالإضافة إلى الرياضيات والمنطق وعلم الفلك، وكان العلماء بها يتوفرون على حس وطني عال، ويلقنون طلبتهم أفكارا مناهضة للاستعمار. وهو ما جعل الإدارة الفرنسية تفرقهم.
لكنها لم تُقم حسابا للقاءات التي تمت بين هؤلاء العلماء، والتي زادت عزيمتهم ونمت حسهم الوطني، مثل ما وقع للعالم المغربي الكبير عبد الله بن سعيد.


عبد الله بن سعيد.. المنفي الذي راسل ليوطي
هذا الرجل المنسي، كان إحدى شخصيات مدينة سلا. نشأ في أسرة سلاوية تقلب أفرادها في المناصب المخزنية، حتى أن والده كان عضوا في السفارة التي أرسلها السلطان العلوي محمد بن عبد الرحمن سنة 1865 إلى الملك الفرنسي، نابليون الثالث.
نشأ عبد الله بن سعيد في كنف أسرة «إدارية»، كانت تعرف تقاليد الإدارة وأعراف المناصب المخزنية. وُلد عبد الله بن سعيد سنة 1865، أي في العام نفسه الذي سافر فيه والده إلى فرنسا، وفتح عينيه في أجواء متوترة في سلا بسبب الحزازات بين فرنسا والوطنيين المغاربة.
في سنة 1917، وهو برتبة قائد وقتها، حيث لازمه لقب «القايد» لاحقا طوال حياته، تعرض لمحنة المنفى. إذ عمد المقيم العام ليوطي إلى إبعاد مجموعة من الوطنيين من بلادهم، وكان عبد الله بن سعيد أبرزهم.
نُفي عبد الله بن سعيد إلى الجديدة، ومنها كتب رسالة إلى ليوطي، اعتبرت وقتها نقطة تحول في التوتر بين الوطنيين، والمقيم العام ليوطي شخصيا. وقد عرض العالم المغربي والوطني أبو بكر القادري نص تلك الرسالة، في كتاب ألفه عن حياة هذا القائد. جاء في الرسالة المؤرخة بيوم 17 يوليوز 1917 ما يلي:
«إني منقول للجديدة ظلما، باسم دولة فرنسا الفخيمة، المعروفة بعدالتها وحمايتها للإنسانية، وحفظ الحقوق الإنسانية.
إن النفس الفاضلة، لا تحتقر أحدا صغيرا كان أو كبيرا، لأنه نقص في حقها، فإن كنتم قصدتم بنفيي ظلما تأديبا من يشجع ذلك (كذا) فإنه غلط، بل أعدمتم الناس الثقة بكم، ولم يبق لأحد من المغاربة ثقة بكم، وغفلتم أن الظلم لا يترتب فيه صلاح أبدا، لأن الله لا يحب الظلم، وإن كنتم قصدتم بنفيي التشفي في ألمانيا، لأني كنت محميا بها، فأنا لست ألمانيا، وإنما أنا مسلم مغربي، ضعيف القوى، ملازم لمصالحي وشؤوني، لا أتدخل في سياسة، وألمانيا بينكم وبينها ميادين حرب سجال، وأنتم قادرون عليها، ومساعدون لمقابلتها، أما أنا (فسلاوي طالب عافية) كما يقول المثل السلاوي، وإنما اتخذت الحماية الألمانية، لأجل الظلم الذي هو محرم في جميع الملل والنحل والأديان، ولا ظلم أعظم من هذا الذي لحقني، بسبب شخصيات بعض رجال الدولة الفرنسية الفخيمة، حامية العدل والحرية التي هذه من ثلاث سنين وهي تقتل رجالها ورجال مستعمراتها وحلفاءها لحفظ الإنسانية، وقتل الظلم والاستبداد، إلى أن يقول : أناشدك الله، هل هذا من العدل الذي ينشر بالجرائد والمنتديات السياسية، والمحاكم الشرعية، صباح مساء، حاشا وكلا أن ترضى دولة العدل والإنصاف هذا، وإنما بعض صغار رجالها الموظفين، يفسدون السمعة للدولة، ويغيرون عليها قلوبا هي أحرص على جبرها، ويظنون أن المغاربة لا يفهمون، ولا يعقلون، بل المحتقر منهم يفهم العجائب والغرائب، وإنما يرضون بالرضوخ، توقيا للغالب من تحت القدرة والسيطرة.
السياسة هي أن يعامل العدو بالإحسان، حتى يصير صديقا، انظر لمعاملة الدولة للأمير عبد القادر الجزائري الذي نجح فيه إحسانها، ووقوفه معها غاية الوقوف، ومع رعاياها في ثورة بيروت، وأما مقابلة الأعداء بالعداء، فأمر مشترك فيه الإنسان والحيوان، عجبا لدولة فرنسا، اتخذت يوم حريتها عيد 14 يوليوز، وتمنع الناس باسمها من حريتهم، لا، لا، لا تنه عن خلق وتأتي مثله.
أطلب من سيادتكم أن تنظروا العدل والإنصاف، حتى أرجع لأولادي عاجلا، ولك الجميل وان لم يتيسر لك، فأجبنا إن ترفع كتابي مع الكتاب قبله على يدك، لمجلس الوزراء الأعلى، ولمجلس السيناتور، وللمجلس الشرعي بباريز، للنظر في أمري فإنكم لا توافقون على ظلم أحد، وقد كنت كتبت لكم بمثله في 16 أبريل 1916».
المثير أن محنة نفي عبد الله بن سعيد الذي توفي سنة 1923، لم تكن تنتهي إلا لتبدأ، واستمر في التنقل بين المحن إلى أن توفي. إذ بعد الرسالة التي كانت شهيرة وقتها، عاد فعلا إلى سلا سنة 1919 وترك أصدقاء له في الجديدة، ومنهم من صاروا طلبة له، إذ استغل فترة المنفى في التعرف على كبار علماء الجديدة، وألقى فيها الدروس وحقق فيها بعض المخطوطات.
وعند عودته إلى سلا، نفي مجددا إلى وجدة، هذه المرة بسبب أنشطته في سلا، حيث اعتبرته فرنسا مسؤولا عن ظهور حركات احتجاجية في سلا مناهضة للسياسة الفرنسية وبقي فيها إلى سنة 1923، حيث أطلق سراحه ليعود إلى سلا، لكنه توفي في السنة ذاتها، مخلفا مسارا من النضال والمواجهة مع فرنسا.

الحسن بن الطيب اليماني.. عميد المناهضين للاستعمار
عندما عاد هذا العالم المغربي إلى المغرب، قادما من الشرق حيث كان منكبا على دراسة المخطوطات، وجد البلاد قد وقعت للتو معاهدة الحماية.
فسنة 1912 كانت بالنسبة إليه محطة سوداء، إذ بمجرد ما أن وضع قدميه في المغرب، حتى بدأت معاناته الشخصية، رغم أنه كان ابن وزير في الدولة المغربية وسبق له أن ولج دار المخزن وعرف تقاليدها وخصوصيتها. والسبب مواقفه الوطنية الرافضة للوجود الفرنسي في المغرب.
هذا العالم المغربي، صاحب أحد أهم المراجع التاريخية المغربية، والذي يحمل عنوان «التنبيه المعرب لما عليه الآن حال المغرب»، سبق له التأليف والتوثيق لتاريخ المغرب، ويعتبره المؤرخون المغاربة أحد أوائل ممارسي التوثيق على الطريقة العصرية. إذ انكب على دراسة الوثائق المخزنية والمخطوطات النادرة، لكي يوثق لتاريخ الدولة العلوية، ووضع المولى يوسف رهن إشارته فريقا من العلماء المغاربة لمساعدته في تلك المهمة.
ورغم أنه كان مقربا من السلطان مولاي يوسف، إلا أن مواقفه الوطنية كلفته حربا ضروسا من الإقامة العامة الفرنسية، إذ لم يكن مرغوبا فيه، وعمدت الإدارة الفرنسية إلى التضييق على أنشطته، سيما وأنه دعا في كتابات وخطب كثيرة إلى رفض الاستعمار الفرنسي، ووجوب مقاومته.
اعتبرته فرنسا مسؤولا مباشرا عن تنامي الحركات المعادية لها وتنامي الاحتجاج ضد الاستعمار.
كان المولى يوسف يوليه مكانة خاصة بحكم أنه كان ابن المؤرخ المغربي المعروف، الطيب اليماني بوعشرين، والذي كان وزيرا أيضا أيام المولى محمد الرابع وتوفي سنة 1869، لكي يترك ابنه الحسن بن الطيب يتيما وسط الكتب والمخطوطات، وهي الإرث الوحيد الذي ناله من والده.
جاء في بعض الإشارات أن الحسن بن الطيب اليماني، سبق له أن كان أستاذا للملك الراحل محمد الخامس وأنه تولى تدريسه في فترة طفولته بالقصر الملكي بفاس. لكنه عندما غادر إلى الشرق وعاد منه، انكب على نسخ مخطوطات مغربية قديمة، وكان موفقا في مشروعه إلى درجة أن السلطان مولاي يوسف، الذي عهد له سابقا بتدريس أبنائه، سمح له باستيراد آلة طباعة خاصة لتسريع وتيرة نسخ المخطوطات، لكن التضييق الذي مورس عليه بعد 1912 من طرف فرنسا، أقبر المشروع، ولم يعرف مصيره لاحقا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى