العزلة أختُ الفكرة!
في حكمة بالغة يقول الحكيم الصوفي ابن عطاء الله السكندري: «ما نفعَ القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة». قلب وعزلة وميدان فكرة، يبدو للوهلة الأولى أن العقل غاب عن هذا الثلاثي، لكن مهلا.. إن طريق العقل هو عزلة قلب في ميدان فكرة، وكأن ابن عطاء الله يقول لنا: السالكُ العاقلُ لا يتأمل إلا الأفكار في عزلة يطلب فيها الصفاء.
والمقصود بالعزلة هنا الاستقلالية الباطنية النابعة من إرادة الشخص، أو التحرر الروحي من التبعية لأي «سوى» إلا الله تعالى، فلا يصير العبدُ عبداً إلا إذا تحقق بعبودية «لا إله إلا الله». وليست العزلة هنا العزلة عن الناس والمجتمع كما قد يفهمه عامة الناس، بل إن الصوفي الحقيقي كما يعرفه خاصة القوم هو من يشارك الناس في صغيرة وكبيرة لكن قلبه معلق بالله، ذاكر له، في كل حركة أو سكون. اللهم العزلة عن الناس الذين يعيقونه نحو الوصول إلى الله تعالى، فأهل السلوك ينصحون السالك بأنه في حاجة أحياناً إلى أن يكون خالياً من الخلق وأن تكون علاقته بهم حكيمة، من هنا نفهم لماذا وصف الشيخ الأكبر ابن عربي، صاحب المواقف والمخاطبات النِّفري بكونه «فارغا من الكون» أي من الارتباط بالناس وانجذابه لهم، فوصله بالله، وطلبه لله، وحياتهُ ومماته لله ربّ العالمين كما نردد دائماً ونحن متوجهون للصلاة.
أو لنقل في جملة مع الشيخ أحمد بن عجيبة: إنّ العزلة هي انفرادُ القلب بالله، وقد يرادُ بها الخلوة التي هي انفرادُ القالبِ عن الناس، ولعلهُ هو المراد الأول بالحكمة السابقة، إذ لا ينفردُ القلب في الغالب إلا إذا انفرد القالب، و«ميدان» هو مجال الخيل استعير هنا للأفكار إذ تترددها في مواقعها كتردد الخيل في مجالها، والفكرةُ هي سير القلب إلى حضرة الرب وهي على قسمين فكرة تصديق وإيمان وفكرة شهود وعيان على ما يأتي.
لذلك فإننا عندما نتأمل هذا الثلاثي: «عزلة، فكرة، قلب»، نستنتج أن الإنسان دائم التقلب في عزلته، يقلّب أفكاره وأحواله يمنة ويسيرة حتى تتحقق له المنفعة والصلاح؛ والقلبُ بما هو القوة المستعدّةُ لقبول المعارف عندما يفكّر في الجماعة قد يغيب عنه وضوح الرؤية ولا يجد له سبيلا إلى التحقق مما سيأتي أو ماذا يوجدُ على الطريق، فضلا عن أنّ الجماعة لها الحق في الاختلاف الجميل.
ولا بدّ لتتحقق العزلة من شروط وجودية أخرى مثل: الصمتُ والتفكّرُ والذّكرُ.
فالفكرةُ صحبة الصمت، وإن كنتَ مع الناس تعلّمك ألا تتكلم إلا في ما يعود على الإنسانية بالنفع، كما تمنحك القدرة على تجنب آفة اللسان، فلا نتكلمُ إلا إذا كان كلامنا مقبولا عقلا أو شرعاً، أي عندما يكون الكلام ذكراً وتفكراً وليس غفلة أو نسياناً للغاية التي وجد من أجل الخلق. وهذه الحكمة تمنحنا فرصة لإصلاح قلوبنا وعقولنا. لذلك كان الصمت من أشرف القيم عندما يصبح الحديث كذباً والفوز بلسان صدق. ولا يسلم في الغالب إلا من دخل ميدان الخلوة الباطنية وإن كان مع الجماعة. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله عبداً تكلم فغنم، أو سكت فسلم».
والقويُّ من يكون صمته مع النّاس ذكراً، وكلامه معهم صادقاً، لا يحتاج إلى عزلة بمعناها المادّي تبعدهُ عن الخلق، فانقطاع الموجود عن باقي الموجودات أمر غير ممكن لكن علينا التحكم فيها بدخولنا ميدان الحضور مع الله.. ميدان التفكر والذكر حتى يستوي عند السالك كما يقول العارفون بالله الخلوة والخلطة، لأنه يأخذ النّصيب من كل شيء ولا تأخذ منه المخالطةُ شيئاً. مع الناس بالصورة فقط أما المعنى فهو مع الله، وفي هذا الذوق الجميل قال عبد الرحمن المجذوب رحمه الله: «الخلق نوّار وأنا رعيت فيهم = همُ الحجب الأكبر والمدخل فيهم».
وحتى يعلم السالكُ حكمة العزلة، نورد قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام مع قومه؛ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله، بأن خرج من كوثى بأرض العراق، مهاجراً إلى الشام، وهبه الله تعالى إسحاق ولده يعقوب حفيده، بعد أن وهب له إسماعيل من أمَته هاجر، التي وهبت لزوجته سارة، ثم وهبتها له، فولدت له منها إسماعيل، ولكا حملت هاجر بإسماعيل غارت منها سارة، فخرج بها مع ولدها إسماعيل حتى أنزلهما مكة، فكان سبب عمارتها، ثم حملت سارة بإسحاق، ثم نشأ عنه يعقوب، وإنما خصهما بالذكر لأنهما كانا معه في بلده، وإسحاق كان متصلا به يسعى معه في مآربه، فكانت بهما أعظم.
والحكمة أن كل من اعتزل عن الخلق فاضت عليه الأسرار الوهبية، قال تعالى: «فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاّ جعلنا نبياً ووهبنا لهم من رحمتنا وجعلنا لهم لسان صدق عليّا». الآية.