شوف تشوف

الرأيالرئيسية

العدل مفهوم وجودي

خالص جلبي

في عام 1936، تم إعدام الشاعر الأندلسي «فيديريكو غارسيا لوركا» في ظروف غامضة في الحرب الأهلية الإسبانية، والسؤال كيف تحكم الآلة الاجتماعية على تصفية إنسان؟ وكيف يتم الإجهاز على الناس بهذه الآلة الاجتماعية من تسلسل الأوامر؟ وكيف يتحول البشر إلى آلات صماء تنفذ أفظع الأشياء بأقل الأوامر؟
وفي 18 غشت من عام 1562 م توفي شاب فرنسي هو «إتيان دو لابويسي» عن عمر 32 سنة، بعد أن ترك خلفه كتابا صغيرا بعنوان «العبودية المختارة»، اختفى تحت لجة التاريخ، وكان صديقه الفيلسوف «ميشيل مونتاني» هو من انتبه إلى أهمية النص، ولكن لم يتمكن من نشره، لأنه كما قال: «إن فيه حياكة أدق وألطف من أن تخرج إلى الجو الخشن الذي اتسم به ذلك العصر الفاسد». إن كتاب «لابويسي» يمثل فعلا (سوبرنوفا) اجتماعية، فهذه الظاهرة الكوسمولوجية لها ما يشابهها في قوانين الاجتماع، وعندما تنقدح الأفكار بشرر كالقصر، فإنها تعبر الفضاء الثقافي في زمن يطول ويقصر، حسب قدرة الاستقبال عند المجتمعات. وهكذا فإن أفكار لابويسي غطست عبر العصور، لينشر النص الكامل عام 1835 م للمرة الأولى، بعد 273 سنة من وفاة صاحبها، ولكن هذا الانفجار المعرفي لم يصل إلى فضاء الثقافة العربية إلا بعد أربعة قرون ونصف القرن مع نهاية القرن العشرين، على نحو باهت يكاد لا يرى ولم ينتبه إليه إلا الآحاد.
يتعجب «لابويسي» من سقوط البشر في أصفاد العبودية، كيف يخضعون لجبروت شخص واحد يأكل مما يأكلون منه ويشرب مما يشربون: «فلست أبتغي شيئا إلا أن أفهم كيف أمكن لهذا العدد من الناس من البلدان من الأمم أن يحتملوا أحيانا طاغية واحدا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلا بقدر احتمالهم الأذى منه. إنه لأمر جلل حقا وأدعى إلى الألم منه إلى العجب، أن ترى الملايين يخدمون في بؤس وقد غلت أعناقهم، دون أن ترغمهم على ذلك قوة أكبر، بل هم في ما يبدو قد سحرهم». نعم إنه السحر الجديد.
إن العدل مفهوم وجودي، لأنه التوازن بين أطراف القوة. وهذا ينطبق على قوانين الميكانيك وتيارات النفس وحركة المجتمع؛ فالسيارة التي لا تملك فرامل تمشي باتجاه الحوادث. وسيارات العالم العربي السياسية كلها من هذا التصميم بدون كوابح؛ فليس أمامها إلا الكوارث، وهي في رأينا سيارة مشت يوما بفرامل معطلة. إننا في السياسة نمشي هكذا بدون حياء ومراجعة. والنفس التي لا تنمي ملكة النقد الذاتي تصاب بالكبر، ولن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. والمجتمع الذي لا توجد فيه معارضة ميت، وهل رأينا الأموات يقومون من قبورهم فيمارسوا نشاطا سياسيا؟ «أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون». وتستقيم حركة السيارة بين (دعسة البنزين) و(الفرامل). وتعمل العضوية على ترشيد أي حركة بمنظمات خاصة في قاعدة الدماغ، وتعطلها يقود إلى مرض باركنسون؛ فيمشي الإنسان مكبا على وجهه مترنحا، مهتز الأوصال. وتعيش الروح بصحة نفسية مع ممارسة النقد الذاتي، وتنضج بدخول مرحلة (النفس اللوامة)، فتتحول إلى جهاز يعمل تلقائيا في عالمي الوعي واللاوعي. وانتبه الغرب إلى مؤسسات المعارضة فاعتبرها قطعة أساسية من جهاز الحكم، والحزب الذي يصل إلى الحكم يفرمل بحزب المعارضة، فيراقبه ويعارضه إذا أخطأ، ويعصيه في المعصية ويطيعه في الطاعة، ويكشف أخطاءه، فلا تأخذه في الله لومة لائم. أما عندنا فما زال السيف يحكمنا منذ أيام معاوية، والعقل في إجازة مفتوحة حتى إشعار آخر. لا غرابة إن رسا مصيرنا في أسفل سافلين، في رحلة موجعة نحو القاع. وهذه المشكلة ثقافية أكثر منها سياسية، وهي تتغذى من الروح التآمرية نفسها في كل مصلحة حكومية ودائرة ومستشفى ومؤسسة إلى مصحات المجانين. نعم إن العالم العربي في قسم كبير منه تحول إلى مصحة عقلية كبرى، بدون أطباء وعلاج وأسوار ومراقبة.
انتبه المفكر «أحمد أمين» مبكرا إلى هذه الظاهرة القاتلة في مسير الحضارة الإسلامية عندما انفرد بالساحة الفكر النقلي الوثوقي، وقتل الفكر النقدي العقلاني، وتمنى بقاء الخطين معا يعدل كل منهما الآخر، وأن لا ينفرد بالساحة تيار دون آخر، ولكن ما حدث أن التيار العقلاني دمر وصفيت رموزه، وفرغ الجو لعقل كسيح وهمة فاترة، فانطفأت الحضارة الإسلامية منذ أيام ابن خلدون. وهكذا فالمعتزلة والاتجاه العقلاني رسا مصيرهم في خانات التكفير، وتمت هرطقتهم وتحطيمهم، وإفناء كل تراثهم العقلي، من نوعية العقل الجبار «النظّام». وبقي في الساحة عقلا بدون مراجعة، ونقلا بدون عقل، وسيارات تمشي بدون فرامل، وهذا هو الأساس الديني للاستبداد السياسي. إن الغرب بنى سيارات تمشي بتوازن بين طاقة البنزين وعزم الكوابح، وقبل ذلك أنتج عقلا يطرح الأسئلة بدون خوف، وأقام مؤسسات سياسية لا عوجا فيها ولا أمتا، في توازن بين محافظين وعمال، بعد أن حطم الكنيسة والإقطاع، وبذلك ولد مجتمع أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، محرر من علاقات الاستضعاف والاستكبار. أما نحن في العالم العربي فقد كتب علينا أن نعيش في قرية تسربل أهلها لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون؛ فالإنسان العربي خائف من المستقبل. متهم ببصمة على الحبل السري يوم ولد ويوم يموت، يرجف من ظل المخابرات، لا يأمن السلطة، وإذا أوقفه الشرطي يسأله عن رخصة السير خفق قلبه وجف ريقه وعلت وجهه صفرة، أو حل المشكلة بالرشوة، كل هذا بسبب خلل رافعة القوة في المجتمع وتحوله إلى مستكبرين ومستضعفين. ويبقى السؤال هل إلى خروج من سبيل؟
إن إدراك قوانين التغيير الاجتماعي أهم بما لا يقارن من اكتشاف قوانين الفسيولوجيا أو أطلس المورثات والجينوم البشري، والمشكلة الخطيرة التي واجهها الأنبياء في التاريخ كانت في العدل، ولعل أخطر مرض يواجه المجتمع هو في كيفية تنظيم نشاطه.

نافذة:

العدل مفهوم وجودي لأنه التوازن بين أطراف القوة وهذا ينطبق على قوانين الميكانيك وتيارات النفس وحركة المجتمع فالسيارة التي لا تملك فرامل تمشي باتجاه الحوادث

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى