في هذا الحوار يتحدث الدكتور الطيب حمضي، طبيب وباحث في السياسات والنظم الصحية، عن الوضعية المقلقة التي وصل إليها وباء كورونا بالمغرب، مركزا على سببين لو تم الانتباه لهما لحافظنا على التحكم في الجائحة كما كنا خلال فترة الحجر الصحي. وأول هذين السببين هو التراخي في احترام الإجراءات الاحترازية، والسبب الثاني هو تأخر الكشف عن الحالات الجديدة. وتحدث الدكتور أيضا عن أهم الإجراءات التي يجب التعجيل باتخاذها لتصحيح الوضع، ودعا بشكل مستعجل إلى تسريع وتيرة الكشف عن الحالات الجديدة وعدم التأخر في ضبط وتتبع المخالطين.
وفي الحوار أيضا يبدي الدكتور رأيه أيضا في قرارات الوزارة ويؤكد أنها في الاتجاه الصحيح، مشددا على أنه غير كاف لمحاصرة الوباء. ومن المقترحات التي يطرحها حمضي تعزيز منظومة الكشف عن الفيروس بدمج أطباء القطاع الخاص وخصوصا الطب العام وطب العائلة باعتبارهم الخط الأول الذي يقع في التماس مع المواطن ومع المواطن الذي يعاني من أعراض كوفيد أو أعراض مشابهة..
لنبدأ بالسؤال الذي يطرحه الجميع، كيف وصلنا إلى هذه الوضعية الوبائية المقلقة؟
فعلا، بعد شهور من التحكم الجيد والكبير في الوباء، كنا خلالها نسجل أرقاما قليلة جدا في الحالات اليومية والحالات الحرجة والوفيات، انتقلنا إلى أرقام مرتفعة يوميا وتسارع كبير في الحالة الوبائية. هناك عدة أسباب.
أولا، حينما كنا في الحجر الصحي كان هذا الأخير بمثابة خيمة كبيرة واقية تحمينا جميعا بفعاليتها، ونحن نضيف إليها الإجراءات الأخرى من كمامات وتباعد وماء وصابون… لما بدأت بلادنا في رفع الحجر الصحي تدريجيا، وكان لا بد من ذلك، كان من الضروري تعويض فقدان حماية الحجر بتعزيز الإجراءات الحاجزية، لأننا أصبحنا وجها لوجه مع الفيروس حتى وإن لم نكن نراه. لكن ما وقع هو العكس تماما. الناس اعتقدوا أن رفع الحجر معناه ببساطة هو نهاية أو بداية نهاية الوباء. وصدق البعض أن فصل الصيف سيقضي على الوباء، بل أصبحنا نسمع بعض الأصوات التي تقول إن الوباء وراءنا وانتهى…
وقد نبهنا حتى قبل رفع الحجر إلى خطورة عدم الاستمرار، بل تشديد وتقوية احترام الإجراءات الحاجزية، وإلى خطورة التراخي من كل الأطراف في الالتزام بالإرشادات الوقائية. للأسف بعض الناس وبعض المقاولات وبعض المهن وبعض الفئات اعتبروا أن الوقت قد حان للتعويض عن الخسائر التي لحقت بهم في فترة الحجز، أو للتعويض والتنفيس عن الحرمان النفسي والاجتماعي…
هذه أحاسيس مشروعة، لكننا في فترة وباء لم ينته بعد ولن ينتهي في الأمد القريب، ولسنا متأكدين أننا رأينا وجهه البشع، أم لم نره بعد… لذلك عوض الهرولة نحو التخلي عن الإجراءات التي تحمينا، كان على الجميع أن ينصت لصوت العقل والحكمة والعلم. هناك من ليس فقط تخلى عن الاحترازات، بل رجع تماما إلى الحياة الطبيعية بالسلام باليدين والعناق وحفلات العقيقة وأعياد الميلاد والسهرات بالعشرات والمئات، وكأن الوباء انتهى.
نعم ولكن هذا سلوك لاحظناه في العديد من الدول وليس في المغرب فقط؟
تماما، وقلنا هذا هنا وقاله غيرنا في الدول الأخرى. وبما أننا استفدنا من تجارب وأخطاء دول سبقتنا في التضرر من الوباء واتخذت بلادنا قرارات شجاعة واستباقية، فقد قمت شخصيا بمقارنة لتجارب تلك الدول التي سبقتنا في رفع الحجر، لدراسة تأثير عدم الالتزام بالإجراءات الوقائية على تطور الوباء. كانت الخلاصة العامة التي قدمتها للرأي العام المغربي ولصناع القرار، هي أنه بعد رفع الحجر الصحي بـ7 إلى 8 أسابيع، وأعطيت رقم 55 يوما بعد الرفع غير المصاحب بالاحترام التام للإجراءات، تظهر علامات الانتكاس ويتم التراجع عن رفع الحجر بشكل من الأشكال. إذا طبقنا هذا المعدل على المغرب الذي بدأ رفع الحجر يوم 11 يونيو الماضي، سنجد أننا كنا مهددين بالانتكاس في نهاية يوليوز وبداية غشت، وهو ما وقع. وقد كررت التحذير في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء نشر يوم 6 يوليوز المنصرم، وعلى صفحات هذه الجريدة ومنابر إعلامية، أن بلادنا مقبلة على منطقة زوابع كبيرة، إذا لم يتم احترام لبس الأقنعة الواقية والتباعد والماء والصابون والمطهرات، وتجنب الازدحام، وتهوية الأماكن المغلقة. وأن التراجع عن رفع الحجر وارد جدا بأشكال جديدة، كالحجر المحلي وعزل المناطق التي تسجل سرعة كبيرة في انتشار الوباء… وهو ما حدث بداية في طنجة.
هل التراخي في احترام الإجراءات وحده السبب في هذه الوضعية؟
لا أبدا، وإن كان للتراخي نصيب وافر من المسؤولية. وبالمناسبة فأنا أتحدث عن تراخي الجميع. لكني أقول للمواطنين علينا نحن كمواطنين أن نحمي أنفسنا أولا وثانيا وثالثا، لأننا نحن من سيؤدي الثمن من حياتنا ومستقبلنا ومستقبل بلدنا.
السبب الثاني والمهم في هذه الوضعية، هو تأخر الكشف عن الحالات الجديدة، وبالنسبة إلى الوفيات التأخر في تشخيص المرض والعناية الطبية بالحالات، التي تصل للأسف متأخرة إلى المستشفيات وأقسام الإنعاش.
لاحظنا الأمر في مدينة طنجة، ونبهنا إلى أنه قد ينتقل إلى جهات أخرى. كلما تأخرنا في الكشف عن الحالات الجديدة أعطينا للفيروس فرصة ذهبية للانتشار أكثر، وكلما تأخرنا في ضبط وتتبع المخالطين، كلما ساهمنا في تفشي الوباء. دولة فيتنام مثلا وهي المتاخمة للصين وبنظام صحي له ما له وعليه ما عليه، لم تسجل إلى اليوم إلا حالة وفاة واحدة، بفضل عدة إجراءات أهمها الكشف المبكر والواسع عن كل الحالات التي لها أعراض، ولكن كذلك عبر الكشف السريع عن المخالطين من الدرجة الأولى والثانية، وحتى المخالطين من الدرجة الثالثة، أي مخالطي مخالطي المخالطين! بهذه الطريقة نجحوا لحد الساعة.
من المسؤول عن تأخر الكشف، هل المواطنون أم المنظومة الصحية؟
الاثنان معا. المنظومة الصحية في بعض المناطق كان لها إشكال كبير في إجراء الفحوصات على الحالات المشكوك فيها وعلى المخالطين. في بعض الأحيان كان المخالطون يتصلون بالأرقام المختصة ويطلبون تسريع فحصهم، وأحيانا تبدأ الأعراض في الظهور لديهم ولا يتم فحصهم إلا بعد عدة أيام… لماذا؟ هذا شخصيا سؤال لم أجد له جواب.
المواطنون كذلك في الكثير من الحالات يرفضون عرض أنفسهم على الفحص الطبي، ويفضلون التداوي بطرق غير طبية كأخذ مضادات حيوية من الصيدليات مباشرة وفيتامينات اعتقادا منهم بفعاليتها، أو بطرق أخرى أو لا يقومون بأي شيء ويتفادون الفحص الطبي حتى لا يخضعوا للتحليل لمعرفة هل هم مصابون أم لا. وهذا سلوك للأسف لا يخص فئة اجتماعية دون أخرى، بل يشترك فيه أناس من مختلف المستويات الاجتماعية والثقافية ومن مختلف الشرائح. صحيح أكثر من 80 في المائة من المصابين بكورونا قد لا تظهر عليهم أعراض أو أعراض خفيفة ويشفون تلقائيا، لكن من يضمن لهم أنهم لن يكونوا من الذين ستتعقد حالتهم وتسوء، ويدخلون أقسام الإنعاش وربما الوفاة؟ ثم الفرق الأساسي هو من الناحية الوبائية. فالشخص الذي يعرف أنه مصاب يتخذ الاحتياطات ويتم عزله ولا ينقل الفيروس إلى غيره، ويساهم في وقف الوباء. بينما الشخص المصاب وهو لا يعرف أنه مصاب بالفيروس، ينقل الفيروس إلى أسرته ووالديه ومعارفه وأصحابه، ويساهم في انتشار الوباء وتسريعه دون أن يدري.
جزء من هؤلاء المواطنين الذين يعانون من أعراض مثل الحمى والسعال وغيرهما يرفضون التوجه إلى المراكز أو العيادات الطبية ويرفضون الكشف على أنفسهم. وبعض المصابين يرفضون الكشف عن لائحة مخالطيهم الحقيقية، ويفعلون ذلك لأنهم يرفضون فكرة نقلهم ونقل ذويهم إلى المستشفيات الميدانية أو المستشفيات المختصة البعيدة عن محل سكناهم وعن أسرهم، بينما هم يلاحظون أنهم في صحة جيدة. هم لا يفهمون هذه المفارقة. وبالتالي بعض المواطنين حتى وإن ظهرت عليهم أعراض «كوفيد- 19»، أو أعراض مشابهة لا يتوجهون للكشف حتى يتجنبوا إجراء تحليل كورونا، ومن ظهرت وتأكدت إصابته بالفيروس لا يعطي اللائحة كاملة لمخالطيه، حتى لا يتم نقله هو وأفراد عائلته إلى المستشفيات الميدانية. وهذا أمر في غاية الخطورة من الناحية الوبائية واقترحنا حلولا له.
لماذا تأخر كشف المصابين والمخالطين بهذه الدرجة من الخطورة؟
هذا سؤال مهم جدا، وهو جزء من مفاتيح تطور الوباء ببلادنا إما نحو الأحسن أو نحو الأسوأ.
في العالم التحكم في الوباء والحد من انتشاره وخفض الوفيات يمر عبر رباعي الكشف، العزل، تتبع المخالطين، العلاج. الثالوث الأول للحد من انتشار الوباء، والعلاج للحد من الحالات الخطرة والوفيات. الكشف عن الحالات التي تظهر عليها الأعراضles symptomatiques ومخالطيهم أساسا، ولكن كذلك الكشف الموسع داخل المجتمع مادام العديد من المصابين لا تظهر عليهم أعراض مطلقا، أو تظهر بعد فترة حضانة ويكونوا ناقلين للعدوى قبل الأعراض نفسها.
الكشف يهم أساسا وبالدرجة الأولى أي شخص تظهر عليه الأعراض symptomatique، ويجب الكشف عليه بأقصى سرعة وعزله وضبط مخالطيه، وعزلهم والكشف عليهم. كلما كانت العملية سريعة بالنسبة إلى الذين تظهر عليهم الأعراض وبالنسبة إلى مخالطيهم كلما حاصرنا الفيروس والوباء، وبالتالي نقوم بخفض معدل انتشار الفيروس، أي R0. وعلى العكس كل ما تأخرنا في ذلك بثلاثة أو أربعة أيام وأحيانا أكثر، نعطي فرصة للفيروس للانتقال إلى أشخاص آخرين، أي إننا نعطي فرصة لـR0 بأن يكون أكثر من 1 أو 2 وربما أكثر. وسأعطيك خلاصة دراسة علمية هولندية نشرت في مجلة طبية متخصصة مرموقة، قبل أسبوعين. وهي دراسة عبر «النمذجة الرياضية «modélisation mathématique. وهي طريقة علمية لها فضل كبير في فهم تطور الأوبئة، ومنها «وباء كوفيد- 19». هذه الدراسة اهتمت بدراسة تأثير تأخر البحث عن المخالطين على تطور الوباء. والخلاصة التي وصلت إليها الدراسة أن المدة التي يجب أن تفصل ما بين ظهور الأعراض والإعلان عن نتيجة الفحص (هل الشخص مصاب بـ«كوفيد- 19» أم لا) لا ينبغي أن تتعدى يوما واحدا! إذا تعدت يوما واحدا إلى يومين، يبقى هناك أمل مع ذلك للحفاظ على R0 تحت معدل واحد (وهو أقصى حد للتحكم في الوباء)، شريطة أن نكون قد تعرفنا على 80 في المائة من المخالطين للشخص المعني في أول يوم ظهرت عليه الأعراض. أما إذا بدأنا في البحث عن مخالطين لشخص ما مصاب بـ«كوفيد- 19» بعد ثلاثة أيام من ظهور الأعراض، فإن عملية تتبع المخالطين ستصبح بلا جدوى، لأننا لن نخفض
الـ R0عن معامل 1. طبعا هذه دراسة مهمة بالنمذجة الرياضية. كل الدول تعاني من تأخر الكشف بدرجات متفاوتة طبعا، ومن الصعب الوصول إلى هكذا سرعة، لكن الدراسة تبين بالأرقام أهمية الكشف السريع، بل السريع جدا عن الحالات التي تظهر عليها الأعراض في اليوم نفسه لظهور الأعراض أو في اليوم الموالي، مع ضبط لائحة المخالطين بأقصى سرعة وعزلهم. هذه السرعة مطلوبة للتحكم الوبائي، وخصوصا أننا نعلم اليوم أن المصابين يكونون أكثر نشرا للمرض خلال اليومين الأولين لظهور الأعراض، وإن كانت هذه القدرة على نقل العدوى حاضرة قبل ظهور الأعراض وتستمر لبضعة أيام بعدها.
لكن بالمغرب أغلب المصابين دون أعراض؟
نعم وهنا المشكلة. في دول أخرى عدد الحالات الجديدة المكتشفة بدون أعراض هي في حدود 50 إلى 70 في المائة. عندما تصل عندنا إلى 98 في المائة أو 90 في المائة، هناك أسباب مختلفة نعم، ولكن بينها أننا لا نكشف كثيرا على الناس الذين لهم أعراض في المجتمع، بل نركز كل جهودنا حول المخالطين للحالات المكتشفة. وهذا ما يفسر كذلك أن أغلب الإصابات الجديدة نجدها لدى المخالطين، لأننا ببساطة لا نتوجه كثيرا إلى الناس الذين لهم أعراض بدون أن تكون مخالطة. وهذا واقع نعيشه يوميا في القطاع الخاص، كما العام. مرضى بأعراض بدون كشف بسبب غياب التخالط، أو مرضى بأعراض لا نراهم أصلا في مسار التطبيب تهاونا أو هروبا.
هل هناك أسباب أخرى لهذه الوضعية الوبائية بالمغرب؟
نعم واسمح لي أن أذكر ما سبق وما رافق عيد الأضحى من تحركات وتجمعات وأسواق، وازدحام وتجمعات عائلية، وسفر بين المدن وسفر من المدن، ومراكز العمل، والأنشطة الاقتصادية نحو المدن الصغرى والقرى …. قبل عيد الأضحى بأسابيع تحدثنا عن دخول المغرب إلى منطقة زوابع، وعن الاحتمال الكبير لتعقد الحالة الوبائية. وأشرنا إلى أن الوباء في المكسيك بدأ ينتقل من المدن والحواضر إلى البوادي، وقلنا يومها إن هذا مؤشر خطير يجب الانتباه إليه. وكنا نضع نصب أعيننا عيد الأضحى. وبين قوسين، منذ أسبوعين، أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية تعرف وتعيش هي الأخرى هذه الظاهرة. المهم، لم يتم إلغاء شعيرة الأضحى. وهنا يجب التذكير أن هناك عناصر أخرى لاتخاذ القرارات، منها الدينية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية … أتمنى فقط أن لا يكون قرار الإبقاء على العيد تم بسبب عدم توقع تعقد الحالة الوبائية. وعلى أي حال تم اتخاذ إجراءات أخرى من بعد للتقليل من المخاطر. بسبب ما صاحب العيد، بل ما سبق العيد من ممارسات وسلوكيات فإننا سنعرف ابتداء من أسبوع إلى 10 أيام بعد العيد مزيدا من الأرقام العالية، بل أكثر ارتفاعا للأسف. وستصاب مدن كانت قليلة الإصابة، ويدخل الفيروس إلى القرى، وتلك مشكلة كبرى.
بالنظر إلى هذه المعطيات ماذا يتعين على بلدنا القيام به للتحكم في الوباء، إذا كان ذلك ما زال ممكنا؟
بالنسبة ما إذا كان ذلك ممكنا سأقول أولا، ما لا يدرك كله لا يترك جله. ثانيا، نحن أمام وباء جديد لا نعرف كل شيء عنه، وبالتالي كل متر أو شبر نؤخر على الوباء مسيرته، هو متر أو شبر نربحه لصالحنا، علينا استغلاله لتعضيد صفوفنا وتنسيق وتقوية ردنا في هذه الحرب، التي أعلنها علينا عدو غير مرئي.
بالنسبة لما يتعين القيام به، هناك شيء لا نقاش فيه: الأقنعة، التباعد الجسدي، التباعد الاجتماعي وعدم الازدحام، الماء والصابون والمطهرات، عدم السلام باليدين، الكحة والعطس في الكوع أو منديل ورقي، تهوية الأماكن المغلقة وتشديد الإجراءات داخلها، بعد هذا يمكننا الحديث عن الإجراءات الأخرى.
أولا يجب علينا بكل استعجال، بل باستعجال الاستعجال تغيير سرعة وصولنا إلى الحالات الجديدة لدى الأشخاص، الذين لهم أعراض ومخالطيهم إلى سرعة قصوى. بدون هذا التغيير لا أمل في محاصرة الوباء.
للكشف السريع عن المصابين الذين تظهر عليهم أعراض les symptomatiques، وفي الوقت نفسه اتباع سياسة الكشف الواسع لتتبع الوباء، نحن في حاجة إلى إجراء ما لا يقل عن 40 إلى 50 ألف تحليل يومي على الأقل. وبحسب المعطيات المتوفرة لدي والمعلنة، فإن قدرة بلادنا حاليا لا يمكن أن تتعدى الـ20 ألفا إلا بقليل في اليوم. إذا لا بد من اتخاذ قرار استراتيجي واضح، وهو تركيز الكشف حول المصابين الذين تظهر عليهم أعراض ومخالطيهم وهؤلاء بالأساس، والتوجه للكشف الواسع إلا في الحالات الاستثنائية والخاصة. هذا سيحرمنا بالتأكيد من رؤية أوسع، ولكن سيمكننا من محاصرة الوباء، اللهم إذا تمكنا من رفع القدرة على الكشف من الناحية البشرية والتقنية ووسائل الاختبارات.
ثانيا، اتخاذ القرار الجريء بعزل كل المصابين بـ«كوفيد -19» غير المسنين والذين لا يعانون من عوامل الاختطار داخل منازلهم إلا استثناء، سواء كانوا يعانون من أعراض أو لا يعانون، بل معرفة وعزل هؤلاء الذين يعانون من الأعراض Les symptomatiques بأقصى سرعة، هو الإجراء رأس الحربة لمحاصرة الوباء.
وهذا ما قامت به وزارة الصحة في مذكرة 6 غشت؟
ما قررته الوزارة هو في الاتجاه الصحيح، ولكنه غير كاف، وللأسف قد لا ينفع في محاصرة الوباء. الوزارة استثنت من العزل المنزلي المصابين بأعراض، واستمرت في نقلهم إلى المستشفيات. هذا للأسف لن يشجع الناس الذين يشكون من الأعراض على التقدم للكشف. قرار وزارة الصحة سيزيل الضغط عن المستشفيات والأطقم الطبية مؤقتا، لكنه لن يساعد مطلقا في تشجيع الناس الذين يعانون من الأعراض على الكشف والعزل، ومن ثم ضبط المخالطين. المطلوب بعد أسبوع من القرار السالف في مذكرة 6 غشت، وبعد تدرب الفرق الطبية على التتبع المنزلي، أن نمر للقرار المطلوب وهو علاج وعزل كل المصابين إلا ذوي عوامل الاختطار داخل منازلهم.
هدا سيشجع كل من يعاني من أعراض «كوفيد -19» أن يتقدم للفحص، ويشجع تتبع المخالطين داخل منازلهم بسرعة تسمح بمحاصرة الوباء.
لكن ألن يطرح هنا مشكل احترام العزل وشروطه لدى البعض؟
في كل دول العالم أو تقريبا، الاستراتيجية هي عزل المصابين داخل منازلهم كل ما أمكن، وتتبعهم ونقلهم إلى المستشفيات فقط عند الضرورة. عزل المصابين بالمستشفيات أو مؤسسات مشابهة هو شيء جيد، يجعلك متأكدا من عزل المصاب عن محيطه. لكن من جهة، بسبب تطور الوباء هذه القدرة لن تكون ممكنة خلال أسابيع قليلة وربما قبل، ومن جهة أخرى وهذا هو الأهم والأخطر، هذه الاستراتيجية لها انعكاس سلبي خطير على تفشي الفيروس وتطور الوباء، بسبب تهرب الناس من الكشف عن مخالطيهم والتصريح بأسمائهم. نحن أمام اختيار عزل 100 مصاب مثلا داخل مشفى مع تأكدنا من عزلهم، لكننا في المقابل نترك آلاف الأشخاص الذين تظهر عليهم الأعراض وهم قنابل وبائية تصول وتجول في المنازل والشوارع والمقاهي والمواصلات، وتفرق العدوى ذات اليمين وذات الشمال، لأنهم ببساطة لا يعرفون أنهم مصابون، هذه هي المشكلة. من الأخطر، هل شخص مصاب ويعرف أنه مصاب وعائلته تعرف أنه مصاب، ونعرف مخالطيه ويعزلون أنفسهم ونتتبعهم، حتى وإن افترضنا أن بعض هؤلاء قد يخطئون في احترام 100 في المائة من الاحترازات، أم مائة شخص لهم أعراض ومصابون ولا يعرفون أنهم مصابون وعائلاتهم لا تعرف أنهم مصابون ويتجولون بكل حرية في كل بلاد الله، ولا سبيل لنا إليهم فالأحرى مخالطيهم؟
وهنا نضيف أهمية تطبيق «وقايتنا» وتحميله وتفعيله عند أكبر عدد ممكن من المواطنين، وعزل الناس بمنازلهم سيساعد في تحميل هذا التطبيق، بعد أن تخلى عنه كثير من الناس، عقب قرار فتح مستشفيات ميدانية بعيدة عن أماكن سكن المصابين.
هل هناك موجة ثانية في نظركم، وما مدى خطورتها المتوقعة؟
اليوم نحن للأسف مقبلون على موجة ثانية، وكل التوقعات الدقيقة تؤكد ذلك، وهو أمر نبهنا إليه قبل أربعة أشهر. التوقعات تشير إلى أنها ستكون أطول وبأرقام أكبر من الأولى، لكن لا أحد يعرف اليوم هل ستكون خطورة الفيروس أشد أو أقل مما هي عليه الآن.
ونحن مقبلون على الدخول المدرسي، ماذا عن الأطفال والكمامات؟
هناك شبه إجماع علمي على بعض المعطيات. قبل عمر السنتين إلى الثلاث سنوات يمنع وضع الكمامة للطفل، لأنه لا يعرف كيف يتعامل معها ويمكن أن تخلق له مشاكل تنفسية. حتى حدود السنة السادسة أو السابعة من الممكن للطفل أن يضع الكمامة، وإن كان لا يعرف معناها الحقيقي أو كيف يتعامل معها بطريقة سليمة. من 6 إلى 11 سنة الطفل يمكنه وضعها إذا كان الأمر مطلوبا، من 11 سنة فما فوق يعاملون معاملة البالغين نفسها. إذن عموما يمكن القول إنه بالنسبة إلى 11 سنة فما فوق، ما يجري على الكبار يجري عليهم. أقل من سنتين ممنوع وضع الكمامة، ومن 6 إلى 11 سنة الكمامة مطلوبة في الشارع العام، وكلما كان التباعد بمترين أو أكثر غير مضمون. ومن سنتين إلى 6 سنوات الكمامة مطلوبة، إن أمكن ذلك داخل الأماكن المغلقة.
يقال إن الأطفال لا يصابون بالمرض ولا ينقلونه بدرجة البالغين نفسها؟
هناك دراسات وأهمها دراسة أسترالية أظهرت أن الأطفال يصابون بـ«كوفيد- 19»، وينقلونه بدرجة أقل بأكثر من سبع مرات من الكبار. لكننا ما زلنا نتعلم من فيروس لم يبح بكل أسراره بعد. هناك دراسة كورية جنوبية أظهرت أن الأطفال من 10 إلى 19 سنة ينقلون المرض تماما كالبالغين، وأقل من 9 سنوات ينقلونه أقل.
هناك دراسة أخرى أمريكية أجريت في شيكاغو أظهرت أن الأطفال أقل من 5 سنوات يحملون حمولة فيروسية من عشر إلى مائة مرة أكثر من البالغين، وهو ما يفترض أن الأطفال أقل من 5 سنوات يمكنهم نقل العدوى بشكل كبير جدا. هذا احتمال.
هناك معطى آخر تم تداوله أخيرا هو إصابة طفل بـ«كوفيد- 19» بمخيم للأطفال، كان يضم تقريبا 600 طفل بولاية جيورجيا الأمريكية خلال شهر يونيو الماضي، وتبين بعد فحص فقط 58 منهم أن 260 طفلا أصيبوا بالعدوى،
إذن نحن أمام معطيات غير مكتملة وأحيانا متناقضة.
في بلدان العالم تم اتخاذ قرار فتح المدارس، بناء على معطى أن الأطفال أقل إصابة وأقل نشرا للعدوى. إذا تغيرت المعطيات ستتغير الكثير من الأشياء.
بالنسبة إلى الدخول المدرسي؟
الوزارة أعلنت عن أجندة الدخول. لم نطلع بعد على الإجراءات والسيناريوهات الحضورية وغير الحضورية. الوضعية ستبقى رهينة بتطور الوباء عالميا ومحليا، وبالمعطيات المتعلقة بالأطفال والوباء. يجب اتخاذ كل الإجراءات والاحتياطات والقرارات الضرورية لفتح المدارس كليا أو جزئيا أمام التلاميذ. وفي الوقت نفسه يجب أن نتهيأ، سواء في التعليم أو في القطاعات الأخرى، لكل الاحتمالات الوطنية والجهوية والفئات العمرية. من المؤكد أن تدبير دخول مدرسي حضوري في ظل الجائحة سيكون قرارا صعبا وله متطلبات، كما أن إقرار تعليم عن بعد قرار كذلك صعب يجب التهيؤ له بجدية. وإلا سنكون أمام موجة ثانية من الوباء وموجة ثانية من المشاكل.
كلمة أخيرة؟
أتوجه إلى الشباب، اليوم جاء دور الشباب بشكل أقوى من ذي قبل. اليوم بإمكان الشباب أن يحمون أنفسهم وهم المعرضون الأكبر للإصابات، وغير مؤمنين ضد الإصابات الخطيرة والوفاة لا قدر الله. وبإمكانهم حماية أسرهم والمسنين وذوي الأمراض منهم، وحماية مجتمعهم، وحماية مستقبلهم وعملهم ولقمة عيشهم اليوم وغدا وبعد غد. اليوم جعلت الظروف والأقدار الشباب في مقدمة المدافعين والحامين لبلدهم ولشعبهم. عليهم وعلينا جميعا تحمل هذه المسؤولية بالاحترام التام للإجراءات الحاجزية، وبالمساهمة في دفع الباقي إلى احترامها. الشباب دائما محرك التغيير، والتغيير الذي ننشده اليوم مع الشباب وبالشباب ومن أجل الشباب والبلاد، هو تغيير منحى الوباء، من وباء نكاد نفقد السيطرة عليه لا قدر الله إلى وباء متحكم فيه وتحت السيطرة.
الفكرة الأساسية: الطريقة الفعالة والناجعة لعزل المصابين والمخالطين من أجل محاصرة الوباء هي اكتشافهم مبكرا ومعرفتهم بذلك، وليس حملهم إلى المستشفيات وتفويت فرص كثيرة مضاعفة لكشف مصابين بأعراض لا يتم كشفهم، أو يتفادون الكشف تهربا من نقلهم إلى مستشفيات بعيدة. كل ما عرف إنسان ومحيطه أنه مصاب سيتخذون جميعا الاحتياطات مهما كانت، لكن في غياب الكشف سيبقى المصابون بالآلاف يتنقلون داخل الأسر والشوارع والمقاهي والعمل ووسائل النقل، ينشرون العدوى بدون علم منهم.
ما هي باقي الإجراءات للتحكم في الوضع؟
الإجراء المهم الثالث هو تقريب الكشوفات من المواطنين، وخصوصا من ذوي الأعراض. علينا دعم النقاط الحالية للتحاليل بأخرى جديدة، وعلينا تقريب مراكز الكشف من المواطنين. كل الدول تقيم لهذا الغرض خياما بأهم المراكز البشرية، لأخذ العينات وإرسالها، حيث يجب أن تحلل. هناك ثلاث فوائد، تقريب الكشف من المواطن وتشجيعه عوض مراكز بعيدة تدفع الناس إلى التكاسل والتراجع عن قرار الكشف. ثانيا، نترك المراكز الطبية تشتغل مع باقي المواطنين دون شللها للتخصص في «كوفيد- 19». ثالثا، نفسيا نكسر الحاجز بين المواطن والكشف ونجعل المواطن الذي لا يرى الفيروس، يمر صباح مساء أمام دليل مرئي وملموس لاستمرار الوباء، واستمرار الخطر ببلاده وبه وبأهله وفي عقر داره.
الإجراء الرابع هو الانتباه وتشديد المراقبة ومضاعفة التوعية والتحسيس، بل حتى تنزيل العقوبات الردعية بسبب أي تهاون أو تراخ، مع عدم احترام الإجراءات الحاجزية والوقائية داخل الأماكن المغلقة: وسائل النقل، المطاعم والمقاهي، المحلات التجارية، المساجد… داخل هذه الأماكن: الأقنعة الواقية، التباعد، التهوية، نظافة اليدين، منع الازدحام بتحديد عدد الرواد أو الزبناء .. هذه أماكن مغلقة خطيرة وبائيا، بسبب الاحتمال الكبير جدا لانتقال الفيروس عبر الهواء، وهذه أماكن لها أصحابها من واجبهم احترام الإجراءات والسهر على احترام زبنائهم والمرتادين لها للإجراءات.
الإجراء الخامس هو تدخل شباب الجمعيات والمجتمع المدني، هذه المرة ليس فقط في التضامن المجتمعي وهو دور ممتاز، ولكن اليوم النزول إلى الشارع للقيام بالدور البيداغوجي الذي يصاحب بل يسبق الدورين القانوني والأمني. نريد تعاونا مستمرا في إطار من الثقة بين الدولة والمجتمع، فالمعركة ما زالت طويلة أمامنا.
الإجراء السادس وهو المتعلق بضرورة دمج أطباء القطاع الخاص، وخصوصا الطب العام وطب العائلة في منظومة الكشف. هؤلاء هم الخط الأول الذي يقع في التماس مع المواطن، ومع المواطن الذي يعاني من أعراض «كوفيد- 19» أو أعراض مشابهة. إذا لم يكن هؤلاء جزءا من منظومة الكشف والتتبع، فإن آلاف المرضى والمصابين يوميا سيبقون في المنازل والشوارع والمقاهي ووسائل النقل ينشرون المرض دون وعي منهم، ولن نتمكن من محاصرة الوباء.
طبعا هناك إجراءات أخرى سبق لي أن فصلتها في مناسبات سابقة، وهنا على صفحات يومية «الأخبار». يهمني التذكير بضرورة توفير التلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية لأكبر عدد ممكن من المهنيين الصحيين وغير الصحيين في الصفوف الأولى، للمسنين وذوي الأمراض المزمنة ولأكبر عدد ممكن من الشرائح المجتمعية، لتفادي الوفيات المضاعفة بسبب «كوفيد- 19» وموسم الأنفلونزا الموسمية، وتجنب الضغط المزدوج على المنظومة الصحية وعدم استهلاك وسائل الكشف بسبب تشابه الأعراض.
الإجراء السابع هو فتح المجال أمام القطاع الخاص من مختبرات وغيرها لإجراء التحاليل للكشف عن المرض أو تتبع المرض والعلاج، مع تحمل صناديق التأمين وشركات التأمين للمصاريف المرتبطة بذلك ككل الأمراض. مع تحمل الدولة لكل ما هو متعلق بالناس غير المؤمنين، لضمان كشف وتتبع وعلاج للجميع. ليس مقبولا أن تدير الصناديق وشركات التأمين ظهرها للمؤمنين لديها، وتترك ميزانية الدولة التي هي ميزانية الشعب وحدها تتحمل النفقات، الصناديق وشركات التأمين هذه مهمتها كما يقع في جميع الدول، ويكفي أن تمد يدها لما راكمته من أرباح ومدخرات، خلال الأشهر الثلاثة من الحجر الصحي. ثم حتى من الناحية الاقتصادية والطبية الكشف المبكر والتتبع المبكر والعلاج المبكر سيضمنون خلو المصابين من الفيروس، ولكن كذلك شفاءهم التام أو بأقل الإصابات. أما التأخر فسيجعل الشفاء بالمفهوم الوبائي مصحوبا في الكثير من الحالات بإصابات قد تكون مزمنة وقد يطول أمد علاجها، وحدها الصناديق هي من ستتحمل المصاريف لعدة أشهر وربما سنوات.