الطريق الطويل إلى الخرف!
بقلم: خالص جلبي
كلنا يحب أن يعيش طويلا ولكن لا أحد يحب أن يكون مصابا بمرض الزهايمر، فلا يعرف ابنه ووالد وما ولد! قطعا أحدنا يرحب بفسحة العمر، ولكن ليس أن يعيش مقعدا عالة على من يطعمه ويسقيه. ومثل ستيفن هوكينج (Steven Hawking) عالم الفيزياء البريطاني الذي وصف أنه إسحق نيوتن الثاني، عاش في سجن عضوي، من شلل عام في البدن، بما فيها الحنجرة؛ فكان يتكلم بكمبيوتر مربوط إلى حنجرته، ويحرك أصبعين في إحدى يديه. لم يتوقع له الأطباء الحياة أكثر من عقد أو عقدين، وها هو يموت عن سبعة عقود ويزيد ويخسر الأطباء الرهان.
ليس (هوكينج) وحيدا في هذا، بل كلنا سجناء في أربعة جدران؛ من جينات تتحكم في أقدارنا، وزمن نولد فيه بالدقيقة، لا نملك له تقديما وتأخيرا. وموتا لا نملك تجاهه دفعا ولا ردا؛ فقد كتب الرب ذلك في صفحة الجينات على جبيننا، من أول لحظة ندخل فيها الحياة، في ديموقراطية صارمة، فيموت أعظم ملك مثل أفقر مملوك. في كفن وقبر يضم عظاما نخرة. تلك إذن كرة خاسرة. نأتي إلى الحياة ونحن أسرى ثقافة تبرمج عقولنا، ولغة تتحكم في ألسنتنا، ودين يفرض علينا إكراهات في السلوك لا نستطيع التخلص منها ولو زعمنا.
الحياة الطويلة جميلة، ومن رزق ثمانين حولا لا أبا له، ولكن أن يكون مصابا بعلة (الزهايمر) فهي المصيبة الكبرى. كنت في زيارة إلى عائلة في (نيوجيرسي) بأمريكا، لاحظت سيدة المنزل وهي تراقب والدها بحذر، ثم أفصحت لي عن المصاب، أن لو خرج والدها ما عرف طريق العودة إلى البيت. كان المرض قد افترس عقله بدون أمل في شفاء. ربما علينا وضع ترانستور في سترته لنعرف أين مكانه؟ أما هو فقد اختلطت إحداثيات الحياة عنده فلا يميز.
من انتبه إلى علة الخرف بفقدان الذاكرة كان الطبيب الألماني ألويس ألزهايمر (Alois Alzheimer) فكانت الحالة الأولى حين اكتشفها عند مريضته أوغيست ديتر (Auguste Deter) عام 1906م؛ فقد بقي يراقبها خمس سنوات عددا، حتى إذا هلكت قام بتشريح دماغها لمعرفة العلة. هو لم يسم المرض باسمه، بل أحد زملائه، وهكذا أصبح مرض فقد الذاكرة معروفا بمرض الزهايمر. الدكتور التسهايمر (كما تنطق بالألمانية) الذي عمل في مدينة فورتسبورغ (Wuerzburg) وهي مدينة في جنوب ألمانيا مقاطعة بافاريا (Byren) أعرفها؛ فقد بدأت رحلة تخصصي الطبي قرييا منها. حرص على فهم ما يحدث في الدماغ، ليكتشف تبدلات جوهرية في النسيج الدماغي. كان ألزهايمر محظوظا أن لم يعمر؛ فقد مات بعمر 51 سنة، وإلا لربما انطبق عليه قانون (مات من نفس العلة) فيصاب بالزهايمر وهو الدكتور ألزهايمر! بالمناسبة أعرف الكثير من الحالات لأطباء أخصائيين يعالجون علة محددة فيصابون بها ويموتون مثل مرضاهم. أذكر حال جراح الصدر الأمريكي المدخن، الذي كانت مهنته استئصال سرطانات الرئة عند المدخنين. أصيب صاحبنا بالعلة نفسها، فلما صور صدره كانت الحالة متقدمة لا ينفع معها جراحة وجراح، فمات بالعلة ذاتها.
وما بين عامي 1906
و2018 مر أكثر من قرن على توصيف الحالة بدون الوصول إلى الدواء النوعي لمكافحته. هذا المرض أصاب النخبة من الناس مثل (رونالد ريغان) الرئيس الأمريكي، و(تاتشر) البريطانية، والفيلسوف (إيمانويل كانط)، صاحب كتاب (نقد العقل الخالص)، فلم يبق عنده عقل يتذكر به أقرب الناس إليه. وهنا المأساة حين لا يتذكر الوالد ولده الذي يعانقه بدموع، ولا تعرف الأم ابنتها التي تقبل يدها.
الطب لايستسلم بل يتابع دورة التحدي، وهكذا فقد استطاع كريستيان هاس (Christian Haass)، وهو خبير في الكيمياء الحيوية، ومن أعلام الباحثين عن الزهايمر، أن يهتدي لما يدور في أنسجة الدماغ. إنها مادة بيتا أميلويد (Beta Amyloid) التي تتراكم في أنسجة الدماغ فتورده الردى. والدماغ هو حصيلة تفاعل مائة مليار من النورونات (بطاريات المخ)، فإن انعطبت وماتت لم يبق منا إنسان، بل هو إلى الحيوان والحشرات أقرب، بل هو أضل سبيلا. هو حاليا يعمل بمركز ميونيخ للأمراض العصبية التنكسية، ويشتغل على المعالجة الجينية على أدمغة الفئران. يقول (هاس) إن قدر المصابين هو في الخلل الجيني، ومن هنا يجب أن نبدأ. ولكن أن نبدأ مبكرا فالمرض يضرب أكثر مما نتصور، ربما قبل 20 عاما قبل أن يعلن عن ثورته الكبرى فينهار العقل وما حوى. يقول إن السر هو في الخلايا المناعية تلك التي كشف سرها قديما الطبيب ألزهايمر، المعروفة باسم ميكروجليا (Microglia). يقول إن عندها من الحذق أن تهتدي إلى تراكم مادة الأميلويد فمنظرها يذكر بسطوح الجراثيم (البكتيريا) فتقوم بمهاجمتها لنزعها من غلاف الدماغ كي يعود سيرته الأولى، ولكن ما الذي يحدث؟ لماذا تعجز الخلايا المناعية عن ممارسة وظيفتها؟ ما الذي لجمها وأضعفها؟ هنا السر فوجب تنشيط هذه الخلايا المناعية، كي يستعيد الدماغ وظيفته وعافيته وتشتغل الذاكرة كما كانت. يقوم الرجل حاليا بحقن أدمغة الفئران بالجينات المناسبة، ويقول إنه حقق نجاحات ولكن من الضروي المعالجة المبكرة، وإلا فإن الالتهاب الذي يشبه الحريق يجعل تدخلنا مؤذيا أكثر مما هو مفيد. وهو ما يقوله أيضا (بييرلويجي نيكوتيرا) (Pierluigi Nicotera)، رئيس المركز الألماني لأبحاث الأمراض العصبية التنكسية ببون (DZNE)، وهم يخضعون المرضى إلى الفحص بجهاز انبعاث البوزيترون (الإلكترون الموجب) (PET = Positron Emission Tomogram)، للكشف عن الطفرة الجينية عند مرضى الزهايمر في الكود الوراثي. ويتوقع أن الأبحاث سوف تصل إلى خرق نوعي في الكشف عن سره ومعالجته؛ في ضوء التجربة التي قامت بها شركة ليلي (Lilly) بتجربة مادة سولان زوماب (Solanezumab) في خريف 2017م، باستخدام مضادات الأجسام في مركز الشركة الدوائية بإنديانا بوليس، والتي لم تعط النتائج المتوخاة، بعد إنفاق جبل من الدولارات على الأبحاث لعشرات السنين.
حاليا يقوم ماتياس يوكر (Mathias Jucker) من مركز هيرتي (Hertie Institute) للأبحاث العصبية في توبينجن (Tuebingen) بالتجربة على 400 مريض تحت شعار: الزهايمر حقل معقد ودينامي، والمهم عزل الحالات على نحو مبكر. ومن جامعة بون نشر ميشيل هينيكا (Michael Heneka) بحثه الموثق في مجلة الطبيعة المحكمة (Nature)، ليروي قصة نجاحاته في المعالجة الجينية على الفئران المصابة بالزهايمر، كيف استعادت قدرتها خلال أسابيع على التعلم من جديد. وهناك تيار مقابل يقوم به الزوجان إيفا ماريا وإيكهارد ماندلكو (Eva Maria & Eckhard Mandelkow ) أن ما يحصل لا يحصر فقط بمصيبة تراكم مادة بيتا أميلويد، وعجز خلايا الميكروجليا عن انتزاعها، وتحرير قشرة الدماغ منها، بل ثمة سر آخر في الخرف وضياع الذاكرة. وهو سر ينطبق ليس على الزهايمر، بل على الطريق الطويل للخرف مثل داء رقص هنتغتون وباركنسون؛ فيهتز مع كل مد يد وكأنه يعد دراهم وهمية وسيلان لعاب وركض خلف مركزه. السر هو في منطقة اتصالات الخلايا العصبية. لنتصور تزاحم العصبونات وشجراتها الكثيفة في القشرة الدماغية من مائة ألف مليون حلية (مائة مليار) وهي تتشابك في كل نقطة من اتصالات وامتدادات من خلية لعشرة آلاف أخرى إن لم يكن عشرات الآلاف مثل أغصان الشجرة. هنا نحن أمام ليس نهايات أغصان، بل تعانق واتصال. يقدرها العلماء بما فوق الغوغل رقما، أي أكبر من كل جزيئات الكون التي تبلغ عشرة قوة 83 فقط. يبتكر هنا الزوجان مصطلحا جديدا في عالم الطب، إنه فيضان سموم البروتينات من نوع تاو (Tau Protein). ومن عجيب ما حالفها الحظ السيدة (ماريا) أنها اهتدت إلى دواء يستخدم في العادة لمرضى القلب، فنفع في تحرير الاتصالات العصبية من هذا السم (تاو). لم تصدق وهي تخسر الرهان مع الفريق العامل معها على 2000 أورو لو نفع الدواء، وفعلا نفع. ويعقب زوجها (إيكهارد) أنه من السابق لأوانه الزعم أن هنا وهناك هو سر المرض. من الأميلويد أو بروتين تاو، يجب الوضع في الحساب العديد من العناصر مثل تروية الدماغ ومواد الطاقة والعديد من الالتهابات. فعناصر انفجار أي مرض هو عادة مركب وليس عنصرا منفردا، وهذا الذي دفع أمهات الشركات الدوائية مثل (بفايزر Pfizer) أن تنفض يدها من المشروع، وهي التي ضربت ضربتها في الكشف عن كنز مخبأ هو دواء الفياغرا الذي جاء بالصدفة، وكان يطبق على مرضى القلب، ليكتشفوا أنه يفعل في المناطق التناسلية بما لم يحلم به أصحاب العنة من أيام حمورابي.
يقول المثل لا يعرف قيمة النعمة إلا من يفقدها، ولا الصحة حتى يخسرها فيراها تاجا على رؤوس الأصحاء. أذكر في ليلة أنني أصبت بألم في كتفي امتد حتى أصابع يدي، سبقتني زوجتي رحمها الله إلى الألم نفسه، قبل أيام. سخرت منها قلت لها أنت لا تتحملين الألم. على المرء أن لا يسخر قط من ألم. ما زلت أتذكر أن الطريقة الوحيدة لتخفيف الألم كانت رفع يدي فوق رأسي. كان يكفي لترحيض الألم وضع يدي جانبا. كنا في طريقنا إلى كندا، زرنا منطقة ألف جزيرة وجزيرة، رأيت رجلا مكشوف الكتف حاملا ابنه. حسدته على هذه النعمة. بقيت فترة طويلة أخاف من كشف كتفي المتألم حتى أراحني الله منه. كان في الغالب انقراصا غضروفيا ضاغطا على الأعصاب في الرقبة، بقيت مريضا به أسابيع طويلة وأنا الطبيب. في كندا كسر أصبع قدمي اليسرى الثالث، لم أستطع المشي سويا على صراط مستقيم إلا بعد ثلاثة أشهر. كنت أحسد كبار السن الذين يمشون بوضع طبيعي على أقدامهم، ولو كانت مشيا وهنا على وهن. على المرء أن يحترم الألم ولو كان وجع ضرس وتشنج عضل، فهو يحرم النائم من طيب المنام وهي نعمة هائلة. رجل أعرفه قال لي ما رأيك في ابني الذي حرم من النوم وتأتيه نوبات من خوف الموت وهو شاب قوي. أنا شخصيا أصبت بحالة طيران النوم ثلاث مرات وكانت فظيعة، فليحمد الله الإنسان على كل نهار يوم يستقبله معافى في بدنه، عنده قوت يومه ولا تتساقط عليه قذائف بشار البراميلي أو صواريخ بوتين الروسي.