الطبال خلف ترامب
صبحي حديدي
قبل جميع كبار الساسة الأمريكيين من مخضرمي ومتقاعدي الحزب الجمهوري، كان نوت غنغرش سباقا إلى تأييد ترشيح دونالد ترامب إلى الانتخابات الرئاسية لعام 2016، وحث ناخبي الحزب على التصويت له، كما انخرط بحماس في حملات تأثيم المرشحة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. إنه اليوم سبّاق، أيضا، في مناهضة تحقيقات الأعضاء الديمقراطيين في مجلس النواب الساعية إلى تنحية ترامب؛ وبالغ الحماس في مدح الأخير وقدح نانسي بيلوسي، رئيسة المجلس، التي حسمت ترددها أخيرا وأطلقت سيرورة العزل.
وحين يُسأل غنغرش عن الفارق بينه وبين بيلوسي، إذ كان في موقعها رئيسا لمجلس النواب، حين قرر الجمهوريون عزل الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون على خلفية فضيحة مونيكا لوينسكي، يجيب ببساطة أن الفوارق كبيرة. كان لدى الجمهوريين يومها تقرير أعده محقق خاص، ولكن «قرار الديمقراطيين ضد ترامب سيئ تماما»، وهم في كل حال يصحون يوميا على قصة جديدة ضد الرئيس، وبيلوسي «في وضع أسوأ بكثير مما كنتُ عليه»؛ ملمحا، بالطبع، إلى العقاب الذي أنزله الناخب الأمريكي بالجمهوريين في الانتخابات، التي أعقبت فشل محاولة العزل. هذا نجم علا في سماء الحزب الجمهوري، أواسط تسعينات القرن المنصرم، ثم انطفأ وانحسر نفوذه حتى كاد يُنسى، لولا أنه لا يكف عن التذكير بنفسه وبأفكاره، وكأنه يعيش في أواخر دجنبر 1995، حين اختارته أسبوعية «تايم» الأمريكية رجل العام. كان غنغرش آنذاك أبرز وجوه الحزب الجمهوري، رئيسا لمجلس النواب، وصانع ضجيج منتظم يكفي لإبقائه في سدة الحدث اليومي وعلى خشبة المسرح الأكثر اجتذابا للأنظار. كان أيضا أحد أبطال «العقد مع أمريكا»، ذلك البيان الانتخابي الذي تبارى على توقيعه مرشحو الحزب الجمهوري في انتخابات تلك السنة، كمَنْ يتبارون في شعائر الإخصاب وإحياء الأرض الموات. كما أنه، أخيرا وليس آخرا، كان أستاذ التاريخ الحديث، والروائي المولع بقصص الخيال العلمي، وأطول المحافظين الجدد لسانا في كل ما يتصل بالأخلاق والقيم والأعراف.
لكنه، في مقابل هذا كله، كان مشروع نجم آفل بالضرورة، وبلاغة الضجيج التي دشنها منذ الدقيقة الأولى لجلوسه في الركن الأعلى من قاعة اجتماعات الكونغرس، أخذت تستهلك بعضها كالنار التي أكلت الكثير ولم يتبق أمامها سوى أن تأكل بعضها.
و«العقد مع أمريكا» سرعان ما انقلب إلى «عقد على أمريكا» حتى قبل أن يبلغ اليوم المائة من عمره الأقصى، الذي حدده الذين أدوا اليمين أنفسهم. وأما أستاذ التاريخ فقد تراجع بمعدل 180 درجة، في أول اختبار لاذع مع اللوبي اليهودي حول علاقة الولايات المتحدة بالهولوكوست، فانحنى، وأطاح بزميلته المؤرخة كريستينا جيفري؛ هو الذي جاء بها لتدون مآثره الشخصية التي آمن ــ ويؤمن اليوم أيضا ــ أنها ستكون استثنائية، غير عادية، وخالدة. وفي عام 1970 اختار لأطروحة الدكتوراه موضوع الاستعمار البلجيكي للكونغو، وانتقد سياسات الحكومة البلجيكية، ليس لأنها مارست أسوأ أنماط الاستعمار في العصر الحديث، بل لأنها… لم تكن استعمارية بالقدر الكافي، أو عجزت عن فهم الرسالة الإمبريالية الأعمق من وراء إرسال الأساطيل عبر البحار. وكتب غنغرش: «ضمن ثوابت الليبرالية الأمريكية في القرن العشرين، يُعتبر الاستعمار الأوربي سياسة غير مقبولة.
ولكن ماذا كان معنى تلك السياسة عند المواطنين الأفارقة أنفسهم؟ هل قامت القوى الإمبريالية بأداء وظيفة مؤلمة ولكنها إيجابية، حين اخترقت المجتمعات التقليدية وعبدت الطريق أمام تحديث أكثر سرعة؟». نعم، يجيب غنغرش دون تردد: «لقد حاول البلجيكيون حل واحدة من أعقد مشكلات عصرنا، أي كيفية تحديث مجتمع تقليدي».
وقد يكون لندسي غراهام، زميل غنغرش في الحزب وعضو مجلس الشيوخ، الأول على جميع الجمهوريين في الانقلاب من ذم ترامب بأقذع النعوت إلى إطرائه بأبهى السجايا؛ إلا أن غنغرش يحتكر موقع الطبال الأبرز في السير خلف ترامب، ومواصلة قلب التاريخ رأسا على عقب!