شوف تشوف

الرأي

الضحية الليبية بين الميراج والبيرقدار

صبحي حديدي
قبل أن يستقيل من منصبه في رئاسة بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، توصل غسان سلامة إلى خلاصات سياسية صريحة، وأخرى دبلوماسية، وثالثة في منزلة بين منزلتين من حيث الوضوح أو الغمغمة؛ لكنه، إلى هذه جميعها، صاغ انفرادات لافتة من حيث طبيعتها التوصيفية لحال البلد، كما في قوله إن ليبيا «قد تكون أضخم مسرح حربي للطائرات المسيرة في العالم». وكيف لا تكون، بالفعل، إذا كانت سماءاتها قد شهدت أكثر من 1000 ضربة بهذه الطائرات، منذ أن بدأ اللواء المتقاعد خليفة حفتر هجومه على العاصمة طرابلس، في أبريل 2019، وحتى نهاية العام.
ولفرام لاشر، الباحث الألماني المتخصص في الشأن الليبي ومؤلف الكتاب المتميز «تشرذم ليبيا: البنية والسيرورة في نزاع عنيف»، الذي صدر بالإنجليزية هذه السنة عن منشورات I.B. Tauris؛ كان في مقالة نشرها أخيرا، قد شدد على دور الطائرات المسيرة الحيوي والفارق، سواء لجهة حسم المعارك ميدانيا، أو تعزيز مبدأ الإنكار والتحلل من المسؤولية (عند وقوع أضرار شديدة، بحق المدنيين غالبا) لدى جميع الأطراف الداخلية والخارجية المتورطة في النزاع. «الطائرات المسيرة رخيصة الكلفة، ومثل نشر المرتزقة تعد علامة فارقة للتدخل العسكري الخارجي في ليبيا»، يكتب لاشر؛ مضيفا: أنها أيضا تعكس الميل العريض إلى خوض الحرب بالنيابة، عن طريق استثمارات محدودة وبصمات قليلة أو منعدمة بصدد المسؤولية، وتخفيض للمخاطر على القوات النظامية، وتهرب من الملامة…
وليس من مبالغة كبيرة في افتراض الدور الحاسم الذي لعبته الطائرات المسيرة التركية في الانتكاسات العسكرية الأخيرة، التي مني بها جيش حفتر الزاحف على العاصمة الليبية، واحتمال انكسار كامل الحملة أو إجهاضها بمعدلات ملموسة إذا سقطت قاعدة ترهونة مثلا. وطائرات «بيرقدارTB2 » هذه، التي باتت الآن مشهورة من حيث أدائها العالي أو حقيقة أن مهندسها الأبرز هو سلجوق بيرقدار، صهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، انضمت سريعا إلى «جوقة» الأسلحة التي عجت بها سماءات ليبيا: ابتداء من الصواريخ الصينية، وطائرات الميراج 2000 ورافال وسوخوي وميغ… التي تشير إلى الجهة الخارجية المتورطة في النزاع؛ وليس انتهاء بالـF-16 التي تستخدمها قوات حكومة الوفاق وجيش حفتر، على حد سواء. ويتندر الليبيون، المدنيون العزل في الغالب، أن أزيز الطائرة المقاتلة أو طنين الطائرة المسيرة يعني أن قذيفة ما سوف تسقط في مكان ما، وأن الضحية ليبية الهوية، وهذا مؤكد؛ أما المجهول، غير المؤكد، فإنه هوية السلاح المحلق في الجو، وجنسية مَنْ أطلقه أو سيره!
والحال أن السمة الأخرى التي باتت تميز الحرب الأهلية في ليبيا هي تكريس مبدأ التنصل من المسؤولية، رغم أن أنساق التدخل الخارجي واضحة وساطعة وتفقأ الأعين، عند الإمارات ومصر وفرنسا وروسيا وتركيا والولايات المتحدة؛ فضلا عن مجموعات المرتزقة التي لا تبدو منفصلة عن أنظمة حاكمة، مثل «فاغنر» الروسية المقربة من الكرملين، أو فلول الجنجويد ذات الارتباط المباشر مع الجنرال السوداني محمد حمدان دقلو. وأن تتنصل دولة ما من وقائع تدخلها، الصريحة والساطعة وحتى الفاضحة، أمر لا يضطرها في المقابل إلى إعلان الاستهانة بـ«الشرعة الدولية»؛ بل، على العكس، تواصل هذه الدول تدخلها، مع التشديد على التزامها المكين بالقانون الدولي والقرارات الأممية!
بهذا المعنى فإن المتغيرات العسكرية الأخيرة على الأرض، وفي السياقات الراهنة تحديدا من حيث انشغال العالم بجائحة كورونا ومخاطر متابعة التدخل الخارجي بكامل اللوجستيات المطلوبة، كفيلة بإعادة مَوْضعة التوازنات السابقة التي كانت تحكم النزاع، وإعادة تقييم (وربما: تحجيم) الموقع الذي كانت قوى خارجية تنسبه إلى حفتر. وتلك معادلة جديدة قد تستدعي إعادة النظر في تفاهمات محورية كبرى حظيت برعاية دولية، مثل اتفاقية الصخيرات 2015 ذاتها، في غير صالح المشروع العسكري الجنوني لجنرال تابع مختل البصيرة، طائش العقل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى