شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

الصين وأخلاق الوفاء

 

 

عبد الإله بلقزيز

على الرغم من الكثير من المآسي الإنسانية التي عاناها الشعب الصيني من سياسات «الثورة الثقافية»، التي أطلقها ماو تسي تونغ في العام 1966، والتي هدفت إلى «تصحيح مسار الثورة» ووضع حد لنفوذ القوى المتبرجزة في السلطة؛ وعلى الرغم من أن الذي خلف ماو تسي تونغ في قيادة البلاد، وقاد نهضتها الحديثة في نهاية سبعينيات القرن العشرين (دينغ سياو پينغ)، كان في جملة من لحقهم الضرر من تلك السياسات: حين عُزِلَ من مناصبه وشُهِّرَ به، إلا أن مكانة ماو تسي تونغ في تاريخ الصين الحديث لم تتزعزع، على الإطلاق، والوفاء الجماعي لذكراه استمر بالتساوق مع استمرار مفعول كاريزماه في الوجدان الجمعي. هكذا تصالحت الصين مع تاريخها الحديث بمثل ما تصالحت مع تاريخها القديم. وكما لم تغير قرون من سلطان تعاليم كونفوشيوس في الصينيين، كذلك لم تغير عقود من تعاليم ماو تسي تونغ فيهم.

ترد تلك المكانة الاستثنائية لشخصية ماو تسي تونغ لدى الصين: شعبا ومجتمعا ودولة، إلى رصيده السياسي والمعنوي الغني بما اجترحه من عظيم إنجازات لبلاده؛ وهو يقود ثورتها الوطنية التحررية، وثورتها الاجتماعية، ودولتها بعد نجاح ثورتها (1949). وأيا تكن أخطاء ماو تسي تونغ السياسية أو تجاوزاته في حق كثير ممن عملوا معه من الأطر والقيادات، لا ينسى له أحد في المجتمع والحزب والدولة ما تفرد به من مزايا:

إليه يعود الفضل في حسن قيادة حركة التحرر الوطني الصينية في مقاومة الغزو الياباني للبلاد. وهي قيادة اقتضت منه، في جملة ما اقتضت، تعليق صراع الحزب مع خصومه في الحرب الأهلية الداخلية وعقد هدنة العام 1973، التي سمحت لعشرات آلاف مقاتلي جيشه بأن يتفرغوا لقتال الجيش الياباني المحتل.

ومع أنه كان لماو وحزبه شركاء في مقاومة الاحتلال، وأهمهم، حزب الكومنتانغ، إلا أن دور الجيش الذي قاده ماو تسي تونغ كان حاسما في دحر الاحتلال عن أجزاء كثيرة من البلاد؛ وإليه يعود الفضل في تحويل الحرب الأهلية الداخلية بين الشيوعيين وقوى الكومنتانغ، بزعامة تشانغ كاي شيك، إلى ثورة اجتماعية انتهت بتحرر الصين وثورتها الكبرى (1949)، بعد إجبارها الكومنتانغ على الانكفاء في تايوان، وتوحيدها العديد من أقاليمها في صين واحدة أسميت: الصين الشعبية.

ولسياساته الاجتماعية الداخلية يدين مئات الملايين من الصينيين من الذين تحرروا من قيود القرون الوسطى: من الجهل والأمية والفقر والمرض والحرمان والتهميش، فتلقوا أرفع التعليم والتكوين، وانخرطوا في دورة الإنتاج، وحازوا حقوقهم الاجتماعية المصادرة منهم.

وإليه تدين اشتراكية الصين في انتحالها لنفسها طريقا استقلاليا عن النموذج الستاليني الذي كان سائدا، وفي تعزيزها سلوك الاستقلال ذاك في سياساتها الخارجية التي تحررت من السياسات السوفياتية بدءا من أوائل الستينيات؛ وإليه تدين الماركسية عموما، واشتراكية الصين خصوصا، في إدخاله طبقة الفلاحين – وهم السواد الأعظم من الشعب – في عداد القوى الطليعية التي تنهض بعملية التغيير الاجتماعي.

ثم لأفكاره كان دين الصينيين عظيما؛ إذ زودتهم بموارد ثقافتهم السياسية التي لم تحِد عن ثوابتها أبدا: الوطنية، والنهضة والتقدم، والإنسان، والعدالة الاجتماعية، والنهج الاستقلالي، والتضامن مع الشعوب المقهورة، ومعاداة الاستعمار والهيمنة…إلخ؛ أي كل تلك المبادئ التي ربِي عليها الشعب الصيني وتشبعت بها أجيال ثلاثة منه.

غير أن مزايا الكاريزما الماوية لا تكفي، وحدها، كي تصنع من ماو تسي تونغ تلك الأيقونة النادرة بهاء وإشعاعا في تاريخ الصين. وهي إذا كانت تكفي جيلا أو جيلين، لا تكفي أجيالا. ومعنى هذا علينا أن نبحث عن سر تلك العلاقة الحارة بين شعب وزعيم في أخلاق ذلك الشعب وقيمه وموارده الحضارية. وفي هذا تسعفنا الكثير من المصادر في معرفة ما تفرد به الصينيون، عبر التاريخ، من خِلال وخِصال ومنها الثقة بالنفس والاعتداد بالإرث الوطني والحرص عليه، والسخاء في علاقات التعاون بمن هم في محيط الصين. وشخصية الصيني مسبوكة في قالب صارم من احترام الناس، جملة، وعدم الكيد لهم أو الاعتداء عليهم، ومسالمتهم واحترام العائلة والقيم والتقاليد… إلخ. بل كم هو دال أن تكون الصين هي الدولة الكبرى الوحيدة التي ليس لها تاريخ استعماري.

مجتمع وحضارة من هذا النوع وحدها تملك أن تحترم رموزها التاريخيين وتتماهى معهم بوصفهم أبطالا وبناة وطن وملهِمين، فلا تتنكر لهم أو تغتالهم الاغتيال المعنوي الذي يخرجهم من الذاكرة.

نافذة:

مكانة ماو تسي تونغ في تاريخ الصين الحديث لم تتزعزع على الإطلاق والوفاء الجماعي لذكراه استمر بالتساوق مع استمرار مفعول كاريزماه في الوجدان الجمعي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى