الصين الصاعدة.. أمريكا المرتبكة
شفيق ناظم الغبرا
لقد تأثرت الولايات المتحدة بصورة كبيرة وخسرت خسائر يصعب تقدير مداها من جراء انتشار فيروس كورونا، لقد كشف الفيروس نقاط ضعف كانت ستنكشف بعد أعوام من الآن. فقوة الولايات المتحدة، قائدة العالم المعولم منذ نهاية الحرب الباردة، وقائدة العالم الحر في زمن الحرب الباردة، تعاني من اهتزاز لم تشهد له مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية. لقد عجلت من هذا الاهتزاز حالة البيت الأبيض بسبب قيادة الرئيس ترامب وحالة الحكومة الأمريكية، حيث فقدت الكثير من الخبرات والطاقات لصالح نمط من الأفراد أكبر همهم إرضاء الرئيس. القوة الكبرى الأمريكية فقدت الكثير من قوتها الناعمة والأخلاقية على مدى العقود الثلاثة الماضية. ومع فيروس كورونا وسياسات البيت الأبيض أصبح الرئيس ترامب أسوأ رؤساء الولايات المتحدة في التاريخ.
وتكتشف الولايات المتحدة، في أوج الأزمة بأن القوة العسكرية لها حدود، وأن القوة العسكرية ليست مفتاح التفوق على الصين، فهذا الصراع هو صراع أنظمة وإدارة واقتصاد وحسن استغلال الفرص. إن الولايات المتحدة التي تعرضت لكارثة الحادي عشر من شتنبر 2001، والتي ورطت نفسها في حربي أفغانستان والعراق دخلت في أزمة اقتصادية صعبة في 2008، وما إن استقرت قليلا تحت إدارة أوباما، إلا وجاءها ترامب بكل أساليب التهريج التي اشتهر بها. لهذا تواجه الولايات المتحدة فيروس كورونا وهي في أضعف حالاتها، وهذا فتح الطريق لكارثة اقتصادية كبرى، سوف نشهد فصولا منها هذا العام وفي العام 2021.
من جهة أخرى، لم تتورط الصين بحروب استنزاف، منذ نهاية حروب كوريا وفييتنام واللاوس وكمبوديا بين الخمسينيات والسبعينيات من القرن العشرين. تركت الصين الحروب للولايات المتحدة. لقد نجحت الصين في إنشاء محرك كبير مثل غوغل ولديها شيء شبيه بخرائط غوغل، ولديها هواتفها الذكية المتفوقة، ولديها علي بابا الذي ينافس غوغل، وبالوقت نفسه لدى الصين أسرع نمو اقتصادي، وهي تقترب من الولايات المتحدة التي ما زالت تحوز على ربع قيمة الاقتصاد العالمي، لكن وفق مقاييس عديدة لقد خسرت الولايات المتحدة كونها أكبر اقتصاد في العالم.
ولدى الصين 375 ألف طالب وطالبة في الولايات المتحدة، إذ يتضح من السياق أن الصين حرصت على التعلم من التجربة الأمريكية الثقافية والعلمية والبحثية. وقد استفادت الصين من العولمة والهيمنة الأمريكية لتضع لنفسها مكانا مرموقا ومؤثرا. بل حتى في الثانويات والمدارس الداخلية الأمريكية توجد أعداد كبيرة من الطلبة الصينيين. وبالوقت نفسه توجد كميات كبيرة من الأموال الصينية المستثمرة في الولايات المتحدة، خاصة في بعض أكبر الجامعات الأمريكية والمختبرات ومراكز البحث. وقد تم القبض منذ أسابيع قليلة على مجموعة من الأساتذة في جامعة هارفارد الأمريكية، بسبب اتهامهم باستخدام المختبرات لمصلحة أبحاث علمية متقدمة لصالح الصين.
وما يبدو على السطح الآن أن الشركات الصينية قادرة على تحمل تبعات الأزمة والإغلاق، وذلك لطبيعة علاقتها بالدولة والحزب الشيوعي الصيني، وهذا بعكس الولايات المتحدة التي لن تستطيع تحمل صدمات السوق، خاصة في ظل التناقضات بين البيت الأبيض والولايات الخمسين. لهذا فإن إعادة انتخاب الرئيس ترامب لفترة ثانية ستدمر الولايات المتحدة.
لكن من جهة أخرى، إن تداخل الدولة الصينية بالعمل التجاري يشكل نقطة قوة، لكنه أيضا نقطة ضعف، وهو قد يؤدي إلى مشكلات، سيما مع إعلان الرئيس الصيني رئيسا مدى الحياة. إن فكرة الرئيس مدى الحياة كما هو الحال في روسيا، تعني بوضوح أن الصعود الصيني والروسي مستمر، لكنها تعني في الوقت ذاته أن الهبوط ممكن، لأن القادة يشيخون وأفكارهم تتجمد وقدرتهم على التجديد تتوقف، مما يعيد إنتاج التناقضات.
إن عودة المصانع الأمريكية التي تم فتحها في الصين ستكون ضرورية للأمن الأمريكي، لكنها لن تكون ممكنة. فعلى الأغلب لن تسمح الصين بعودة هذه المصانع. بل قد تلجأ الصين إلى تأميم المصانع الأمريكية والغربية، التي انتشرت فوق أراضيها. وقد يكون هذا الوضع جزءا من الحرب الباردة القادمة. هذا سينهي عصر العولمة الذي تبنته أمريكا، عندما صب بمصلحتها.
لكي تنجح الولايات المتحدة في البقاء في حلبة القوة والعالمية، فهي بحاجة إلى بناء بنيتها التحتية وتجديد اقتصادها، وهي بحاجة إلى ردم الهوة المتصاعدة بين الأغنياء والفقراء، وبحاجة إلى العناية بالبيئة، والمناخ، والتعليم، والصحة والبحث العلمي. هذه التعديلات ستحتاج قادة مختلفين عن القادة الراهنين. بل ستضطر الولايات المتحدة إلى تنسيق جاد مع شركائها الأوربيين الذين تخلت عنهم، وستضطر إلى العودة للناتو الذي فككت قدراته، وستجد أنها مضطرة لخطاب يركز على حقوق الإنسان والتنمية، عوضا عن تحالفات الاستبداد وخطاب دعم إسرائيل في طغيانها في العالم العربي وفي فلسطين. ومهما فعلت الإدارة الأمريكية، فإن العصر الأمريكي يتراجع باضطراد وذلك في ظل لاعبين جدد كالصين والهند وروسيا ودول أخرى. إن التعددية القطبية ستكون حقيقة واضحة قريبا، لكن الأخطر أنها تسهم في جمود القرار العالمي ونزاعاته القادمة.