الصفعة الاستعمارية
بقلم خالص جلبي
إن الحس الحضاري عند الجبرتي المؤرخ كان من العمق ما لم تستثره المظاهر الاستعراضية لحملة نابليون أو الأشياء السطحية؛ بل حاول أن يفهم هذا التغير الجديد للعالم من حوله، أي روح الحضارة الجديد وطبيعة الزخم الذي تندفع به، لذا فقد أعطى في مؤرخه ذي المجلدات الثلاثة ما يزيد عن ثلاثين صفحة (لقضية التحقيق في محاكمة سليمان الحلبي قاتل الجنرال الفرنسي كليبر) عن التحول الجديد في طبيعة التحقيق في الحوادث، والنظام القضائي البديع، واستيفاء الوقائع، واستنطاق الشهود، وجمع الأدلة القضائية قبل إصدار الحكم. في الوقت الذي كان البشر في ظل حكم المماليك يقتلون على الشبهة، ويعتقلون على الكلمة ويعذبون، ويختفون من وجه الأرض على الظن. كل ذلك في غياب مطبق لأي صور من صور العدالة الحديثة، والقضاء الجديد، والمرافعات وتعدد مستوى المحاكم، واستقلال القضاء ونزاهته إلى حد كبير إذا قيس في تلك الظروف.
إذن الحضارة بكلمة أخرى هي ليست عملية شراء واستيراد وتكديس للأشياء؛ بل هي في عمقها عملية بنيوية تركيبية علمية عقلانية قبل كل شيء. هي تفاعل بين الإنسان والوقت والتراب (على حد تعبير المفكر مالك بن نبي). هي ثلاث: إيجاد الشيء، وصيانة الشيء، وتطوير الشيء. هي السيطرة على ما تنتجه الحضارة وإفرازها الدائم، والاستعداد للتكيف مع التغيرات في ضوء العلاقة الجدلية بين الإنسان والفكرة والشيء. إن المنتجات الكمية والتقنيات المتطورة خلفها أخلاقيات عمل معينة وعقلية ذات توتر متميز وروح ذات نبض خاص.
أدرك المؤرخ الجبرتي هذه العلاقة المقدسة أو طرفاً منها على الأقل، لذا وصفه المؤرخ البريطاني وهو يرى انهيار العالم القديم وتسارع وقع الأحداث بصاحب (السيكولوجية الشفافة) كتب يقول، أي المؤرخ البريطاني توينبي: (كان الجبرتي يملك موهبة سيكولوجية بعيدة الشفافية مكنته من استيعاب حقيقة الدخلاء.. إن الجبرتي قد علم حقيقتهم جميعاً. وتجلت شفافيته السكولوجية في أعظم حالاتها في إدراكه نقاط القوة والضعف في سلوك الفرنسيين غزاة مصر ومن قبيل المثال:
عمد الفرنسيون إلى التأثير على المصريين بإقامة معرض لمنجزات العلوم الأوربية. وقد زار الجبرتي هذا المعرض ولم يستثر اهتمامه ووصم المعروضات بأنها لعب أطفال للتأثير فينا، لكننا لن نخدع ببساطة. وعندما اغتيل القائد العام للقوات الفرنسية الذي خلف نابليون أقيمت للقاتل محاكمة عادلة قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه. وشهد المحاكمة الجبرتي ـ المراقب المثابرـ مثلما زار المعرض السالف الذكر. وقد أثرت فيه عدالة المحاكمة أيما تأثير، إذ انتفت هاهنا الدعاية، فكانت أن بدت أمامه أسلوباً صافي النية للتصور الفرنسي الأصيل لإقرار العدل).
في العصر الذي كان يكتب (فولتير) مؤلفه الفلسفي، و(ديدرو) موسوعته، و(جان جاك روسو) عن أصل العقد الاجتماعي وتربية الإنسان، و(جان مسلييه) تأملاته الفكرية الجريئة، و(إيمانويل كانط) كتابه في نقد العقل الخالص، وفي الوقت الذي كانت حملة نابليون تؤدي دور الصفعة لعالم خرج عن خط التاريخ ودخل السبات الشتوي ليستيقظ من جديد.
استيقظ العالم العربي والعالم الإسلامي إذن على الصفعة الاستعمارية، كما استيقظ اليابان في وقت متقارب، ولكن القدر الذي سارت فيه اليابان كان مختلفاً عن القدر الذي سارت فيه مصر والعالم العربي. ويبقى السؤال واللغز المحير لماذا وصلت اليابان إلى المستوى الذي يحدثنا عنه الكاتب الياباني المحدث (شينتارو إيشيهارا) في كتابه الذي بيع منه فور صدوره مليون نسخة (اليابان البلد الذي يستطيع أن يقول لأمريكا .. لا ) والذي نكاد نقول أنه يحمل العملاق الأمريكي على إحدى راحتيه، والذي كشف فيه النقاب عن حقيقة أنه ـ وبواسطة التفوق العلمي الياباني ـ حتى الترسانة النووية الأمريكية اليوم باتت معتمدة في تفوقها على (الميكرو شيبس = رقائق الكممبيوتر) . ومصر البلد الحالي الذي لو قطعت عنه أمريكا الخبز اليومي لمات جوعاً ؟!. الغارق في الديون الخارجية، العاجز عن حل مشاكله اليومية ؟!.
إن خريف القرن الثامن عشر كان مجدداً فرصة رائعة للعالم الإسلامي لكي ينشط ويتجاوز الفرق التاريخي ويساهم في مسيرة الحضارة الإنسانية، ولكنه أضاع الفرصة كما أضاع الأتراك فرصة خريف القرن السابع عشر؛ فلم يستطع العالم الإسلامي أن يركب الميكانيزم الحضاري كي تنطلق الحركة العقلية التي هي أساس كل نهضة حضارية. ولكن من رحم المعاناة تولد الأمم من جديد. والموتى يبعثهم الله.