حسن البصري
عندما يموت الحكم لا أحد يرث صفارته ولا بذلته ولا بطاقاته الصفراء والحمراء. عندما يموت الحكم لا يذكره اللاعبون إلا بصفير منفلت غير مجرى المباراة، ولا يمشي خلف جثمانه إلا أفراد عائلته وجيرانه والمقربون منه ثم الناجون من إنذاراته.
عندما تموت خادمة الحكم يتوافد المدربون والرؤساء على بيته لتقديم فروض العزاء، وإذا مات الحكم لا أحد يهتم بموته، لا فرق بينه وبين الحاكم القروي في طقوس الموت.
لا يعرف الحكم كغيره من بني البشر متى تطلق صافرة نهاية الحياة، رغم أن حكم الكرة يختلف عن باقي مكونات المباراة، لأنه يجسد العدل وينصب نفسه قاضيا بين طرفين متنازعين على امتداد تسعين دقيقة أو أكثر.
قبل أسبوع وجهت زوجة الحكم الشاب عبد العزيز لمسلك نداء استغاثة، وكشفت للرأي العام الرياضي صورة حكم سرق منه المرض ملامحه، وبدا مستسلما للداء والدواء، خاطبت بتدوينتها جهاز التحكيم قبل أن تمسح التدوينة كما تمسح كل مساء دموعا متحجرة في مقلتيها.
مات الحكم عبد العزيز لمسلك، وشيع إلى مثواه الأخير وسط ذهول حكام كانوا يعتقدون أن الحكام يعمرون طويلا، مات قبل أن يحقق حلم الشارة الدولية، ولأن الحكم مغبون حيا وميتا فهو الشخص الوحيد الذي لم تخصص له هيئة الأمم المتحدة يوما عالميا للاحتفاء به.
حين يموت الحكم لا نخلد اسمه على واجهات الملاعب لأنها محجوزة لنجوم الفريق، لا نعفي أبناءه من رسوم الانتماء لمدارس الكرة، لا نقيم دوريا باسمه ولا نطلق اسمه على فوج من الحكام المتخرجين ولو من باب التكريم الرمزي.
لهذا قال الحكم الإيطالي الشهير، «بيير لويجي كولينا»، إن «التاريخ يتنكر للحكام لأنه لا يفرق بين حاكم في الملعب وديكتاتور في بلد مقهور»، لهذا يظل الحكم عنصرا بلا سند، فالجمهور يوزع عشقه على الفريقين المتباريين.
موت الحكم الدولي سعيد بلقولة شبيه بموت زميله عبد العزيز لمسلك، تربص بهما السرطان وأشهر في وجهيهما بطاقة طرد من الحياة الدنيا، لقد مات سعيد في مصحة لا تبعد إلا بأمتار قليلة عن الملعب الذي قاد فيه نهائي كأس العالم سنة 1998، ومات عبد العزيز في مصحة لا تبعد عن الملعب الذي شهد انطلاقته.
عندما مات الحكم بوشعيب بن سلطانة، ظلت أرملته خديجة تنتظر ترجمة الوعود التي تلقتها من القائمين على جهاز التحكيم في المقبرة، على أرض الواقع.
لكل حكم قصة مع الموت، لكنهم ماتوا بعيدا عن صخب الملاعب، أسلموا الروح لبارئها في صمت، إنهم يتشابهون في هندامهم في إشاراتهم في تحركاتهم وفي مماتهم، استسلموا لقدرهم آمنين مطمئنين رموا صرامتهم جانبا ونطقوا الشهادة ثم ودعوا الحياة الدنيا.
هكذا مات عبد الكريم الزياني، ومحمد باحو وعبد العزيز بلفتوح وعيسى جقاوة ومحمد الغرميلي، وآخرون رحلوا في صمت دون أن يشعر أحد برحيلهم، بينما يعاني ثلة من الحكام من المرض ويحرصون على التعايش مع أوجاع تمارس سلطتها التقديرية عليهم.
تحضرني واقعة الحكم الجهوي معاذ، هذا الحلاق الذي لطالما قاد مباريات كرة القدم في عصبة عبدة دكالة من أزمور إلى الصويرية، لكن في غفلة من اللجنة الجهوية للتحكيم جمع أغراضه الصغيرة، ووضع «صاكه» على كتفيه رمى الصفارة في وجه عصبة حرمته من متعة قيادة مباريات الكرة، وقرر ركوب قوارب الموت مقابل تحويشة العمر. ألقى النظرة الأخيرة على عتاد لا يسمن ولا يغني من جوع ثم أشهر البطاقة الحمراء في وجه مهنة لم يجن من ورائها إلا رذاذ الأحلام.
أخشى أن يأتي يوم نسير فيه خلف جنازة «جهاز الفار».