شوف تشوف

الرأي

الشيطان في التفاصيل

سلام الكواكبي

اعتبر الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قبل أشهر، أن الرجل الذي يرفض مصافحة امرأة، كما لو رفضت امرأة مصافحة رجل، فهما «يخرقان» قوانين الجمهورية الفرنسية.
وقبل ثلاثة أيام، وبعد عدة تأجيلات خرج الرئيس الفرنسي، مجددا، بخطاب اختار أن يتلوه في ضاحية فقيرة من ضواحي العاصمة باريس. وقد تم الإعلان عن هذا الخطاب تحت عنوان «الرئيس سيستعرض خطته لمواجهة التوجهات الانفصالية في الجمهورية». وبعد أن كانت «الانفصالية الإسلامية» هي المستهدفة منذ بدء استعمال هذا المفهوم، تم وضعه لاحقا بصيغة الجمع، سعيا من مستشاري الرئيس إلى التمويه على حصر الخطر بالمسلمين فقط. وقد تبين لباحثين عديدين جديين أن تعبير «الانفصالية» الإسلامية قد همس به في أذن سيد الإليزي أحد مستشاريه العلميين ومعروف أخصائيا بالإسلام وبقضايا الشرق الأوسط. وهذا التعبير بدأ بالظهور في كتابات هذا الباحث وتلامذته ممن ارتأوا، بعد أن خطوا طريقا جادا في البحث العلمي، أن يدخلوا جوقة الترهيب من الهجرة، وأن يكتبوا عن الضواحي «الخارجة عن الجمهورية» وعن «الغزو الإسلامي» للمدرسة الجمهورية.
وعلى الرغم من تحذيره، في بداية الخطاب، من أنه لا يجب أن نقع في فخ الخلط بين الإسلام والإسلام المتطرف، إلا أنه سرعان ما نسى ما حذر منه، فقال إن الإسلام في أزمة. في المقابل، جرؤ على ما لم يجرؤ عليه كثيرون بالحديث عن دور/ جرم السياسات العامة التي اتبعتها الحكومات السابقة، وأفضت إلى عزل المهاجرين وأولادهم وأحفادهم في مدن حديثة فقيرة، تحيط بالحواضر المدنية، مع توفير الحد الأدنى من المواصلات التي تسمح لهم بالانخراط في المجتمع العام.
وفي الإشارة إلى الحقل التربوي، اعتبر أن من غير المقبول ألا يرسل الأهل أطفالهم إلى المدارس إلا لأسباب صحية، والتعليم إذاً في البيت سيصبح من الممنوعات. وتفيد الأرقام بأنه لا يوجد أكثر من 50 ألف طفل وطفلة غير ملتحقين بالمسار التعليمي من أصل 12 مليون تلميذ. وبالتالي، يجوز التساؤل هنا عن أهمية هذا التفصيل، لكي ينبري رئيس الجمهورية بتخصيص بند طويل له في حديثه. ويبدو بالفعل أن تأثير المستشار المرموق في الشؤون الإسلامية قد أوقعه في هفوة لا طائل منها في هذا التفصيل التربوي، حيث يستحق البند الدراسي التوقف عنده فعلا من جوانب متعددة ليس التطرف الديني إلا جانب معزول منها، فالنقص في الإمكانات وضآلة فرص الحصول على عمل بعد التخرج، والتراجع في البنية التحتية التعليمية والعزلة الجغرافية للأحياء، بما فيها المدارس، وغيرها وسواها، تلعب كلها دورا تأثيراته أكثر وضوحا من مجرد حصر المشكلة في التطرف الديني الذي، وإن تفاقم العجز والتراجع، سيجد «بيئة حاضنة» لم يتمكن من توفيرها بإمكاناته الذاتية، وليس على السياسات العامة أن تزيد من فرص إتاحتها.
وأشار الرئيس إلى محاسبة الأطباء الذين يمنحون شهادة عذرية، بناء على طلب بعض الأهالي من المتطرفين. وعلى الرغم من ندرة وقوع مثل هذا الأمر، وعلى الرغم من أن الساعين إليه ليسوا فقط من المسلمين، إلا أن من المستغرب حقا أن يندرج مثل هذا التفصيل في خطاب يحدد سياسات عامة، تهدف، حسب من يتبناها، إلى تحسين فرص المناطق المهمشة وتعزيز إمكانات الاندماج.
وتحدث ماكرون عن تعزيز البحث العلمي الفرنسي في حقل الإسلاميات. وهذا كلام حق يخشى اعوجاجه إن وقع هذا البحث في أيدي جهلة، كبعض من يتصدرون شاشات التلفزة للحسم والقطع في شؤون الإسلام والمسلمين، أو، وهو المرجح، أن يقع في أيدي مستشاريه من الباحثين الذين يهمسون له بخصوص التركيز على التفاصيل، للهروب من مواجهة شيطان الحقيقة. وبمثل هذه الصيغ من السياسات، تغيب أية فرصة للتخلص من التطرف الديني. ولكن من المؤكد أن فرص التطرف اليميني العنصري الإسلاموفوبي والمعادي للهجرة ستتعزز.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى