الشقاء
لم تكن طفولتي طفولة عادية بل كانت في كل شيء رجولة، بعدما فقدت والدتي عملها، فكرنا مليا في مشروع نكسب منه قوت يومنا مهما كان بسيطا. لم يكن هنالك حل يتناسب وخبرة والدتي غير استغلال موهبتها بالطبخ وإعداد الحلويات والخبز المنزلي. كانت تعدها كلها وتبيعها للجيران، وكان لي نصيب من العمل طبعا، آخذ الخبز والحلوى في تلك الطاولة التي تضاعف وزني مرات ومرات لتجول بها في أركان تلك المدينة المخيفة التي تشبه فم «غول» بأنياب مفترسة وقواطع حادة ومخالب ناهشة. دعوات أمي كانت كفيلة بحمايتي. أيام الجمعة والسبت والأحد تباعا كنت أقضيها بين أسواق المدينة، ومن حين لآخر أجد لي ركنا أنزوي فيه لأخرج دفاتري وكتبي وأعد دروسي. لابد أن يكون تفوقي من أرقى الهدايا والمناديل الورقية التي أمسح بها شقاء أيام أمي، وما تبقى من أيام الأسبوع كنت أقضيه في المدرسة ثم الإعدادية ثم الثانوية ثم الجامعة. سنوات بطولها اشتغلت في كل شيء حتى في النظافة، علمتني أمي أن العمل وكسب القوت الحلال من أشرف مناهج الحياة.
لم أكن أتوقع، بعد حصولي على أعلى الشهادات، أني سأصبح معطلة عن العمل، لم أكن أتوقع أن شيطان الكتابة وملائكتها لم يفلحوا أيضا بقبول أي من دور الطبع والنشر بجعلها تخرج من صدري ومرارة أيامي للأوراق لأيدي القراء. لم أفلح في شيء. ما أصعب الفقدان في بحر لجي تتلاطم أمواجه حتى نبصر منارة النجاة فيضيع كل شيء وينطفئ نور المنارة كما عيدان الكبريت، دونما رحيلي.. مكتوب علي البقاء فقط كي أشقي وأشقى.