الشعب وملكة النقد
«ملكة النقد إحدى قدرات الذهن العليا إلى جانب الفهم والعقل».
كانط
لا يمكن أن نستمر في هذا الطريق المؤدي إلى الإنسان الإنساني، الذي سيحرك مفهوم السيادة الشعبية، ويحمس الأفراد نحو التشوق إلى الحصول على لقب المواطنين في أفق الحرية والمساواة، وذلك بدون إعادة الحق للإنسان في ملكة النقد، مادام أن كل كائن عاقل يملك بالقوة إرادة النقد، وإلا سيعتبر غبيا، حين يدافع عن حقوقه، وينتقد الفساد السياسي والأخلاقي، بيد أن الوصول إلى بلاد العقل النظري، لا بد أن يمر عبر هذه الجزيرة التي حصرتها الطبيعة في حدود ثانية، لأنها تستضيف الحكمة والحقيقة، وبلغة نقد العقل الخالص؛ إنها عالم الشيء في ذاته، أو العالم المعقول، لكن كيف يمكن الحصول على بطاقة الإقامة فيه؟ هل يتطلب الأمر سفرا في الوجود والزمن؟ أم مجرد تأملات ميتافيزيقيا ترمي بالذات في ضياع الكوجيطو؟
قد تكون هذه الرحلة في استيطيقا الروح حافزا للعقل، من أجل أن يولد أحكامه النقدية، ومن خلالها يستطيع أن يفكر في وجوده، لأنه من البديهي أن ينتمي هذا الوجود إلى الفكر، خاصة وأنه يضع نفسه رهن إشارة مقولات العقل الخالص. هكذا ستبدأ الفلسفة النقدية في اللمعان، باعتبارها من أهم اختراعات العقل الإنساني، وإلا لم يكن باستطاعته أن يتخلص من الانحرافات والأخطاء التي ينزلق فيها العقل دون وعي، ولذلك فإن النقد لم يعد مجرد وسيلة، بل تحول إلى غاية، ولعل جدلية العقل والنقد هي مصدر عصر التنوير، الذي قام بتحرير الإنسان من العبودية، والعقل من أوهامه. إذ لا يكفي العقل وحده، لكي ندافع عن العقل، ولكن ينبغي أن نتسلح بالنقد، فالعقل يبدع النقد، والنقد يفجر عصر التنوير، وخاصة عندما يصبح نقدا شموليا لانحطاط المجتمع يفصل بين السياسة والهيمنة، ويقوم بهدم النزعة الإصلاحية التي تستنجد بالماضي، من أجل السيطرة على الحاضر، وترغم الرؤية العقلانية للعالم على الغروب، مما يؤدي إلى تشديد الخناق على الفكر، فبأي معنى يمكن فهم جدلية النقد والتنوير؟ هل يتعلق الأمر بنقد الهيمنة السياسية؟ أم بثورة ثقافية على النظام القديم؟
لا يمكن للنقد أن يصبح فعالا في مجتمع لم تخترقه أشعة الفكر التنويري، ولعل العقل الإنساني ينشر كونية التنوير، على الرغم من الحصار الذي تمارسه السلطة التيولوجية على الشعوب. وبما أنها تعمم خيبة الأمل على المواطنين، وتحفزهم على الاكتئاب والتشكيك في العقل والسياسة المدنية، فإنها تؤهلهم للعبودية، والإيمان بالقدر الخرافي، ومعنى ذلك أن أفول العقل هو بمثابة أفول للإنسان في شفق الأصيل.
ومن أجل رد الحرية الإيجابية للإنسان التي ستمنحه: «القدرة على السلوك وفقا لقوانين العقل الكونية، لابد من التخلص من فكرة الحرية السلبية التي تدعي حماية الأفراد من شطط السلطة». وبلغة الفلسفة النقدية التي تراهن على التنوير في نشر فكرة إيجابية للحرية والتحرر، حيث تتحول إلى غاية للسعادة. ولعل هذا الأمل لأنوار العقل هو الذي دافعت عنه مدرسة فرانكفورت. ولن يرى النور إلا في فضاء النقد، باعتباره رفضا للهيمنة والخضوع، وليس مجرد إصلاح لملكة المعرفة كما فعل كانط، ولذلك فإن كتاب جدل النقد والتنوير، قد فتح حوارا عميقا مع كانط حول النظرية النقدية، وغايتها المتمثلة في التحرر من الهيمنة، ومع ذلك فإن الإخلاص لكتاب نقد العقل الخالص، ظل يطفو على سطح كتاب جدل النقد والتنوير، من خلال ربط التنوير بالعقل، وجعل النقد ضرورة للخروج من الأزمة التي تهدد مستقبل الإنسانية.
هكذا تصبح «جدلية التنوير» هي مقياس العالم الجديد، لأن القراءة النقدية للتنوير هي في الحقيقة «الهدم الذاتي للعقل»، وذلك من أجل إحداث القطيعة بين العقل التنويري النقدي، والعقل الأسطوري، إذ ينبغي على هذا العقل المحطم للوعي الذاتي، أن يتوجه نحو الخسوف، ليفسح المجال أمام العقل الثوري بلغة ماركيوز ذلك أن إشكالية النقد والتنوير، تنطلق من التساؤل التالي: لماذا سقطت الإنسانية في بربرية جديدة، بدلا من أن ترتقي إلى وضع إنساني أعمق؟
يأتي الجواب، انطلاقا من الوضع الملتبس للتنوير، لأن تجلياته تكون إيجابية وسلبية، ولكي يتم نزع الغلالة السحرية عن العالم، لابد من نقد التنوير السلبي بواسطة التنوير الإيجابي، هكذا سيعرف كتاب جدل التنوير، المعنى الإيجابي للتنوير قائلا: «منذ أن وجد التنوير بمعناه العام، بما هو تفكير متقدم، فإنه يعمل على أن يحرر الناس من الخوف وأن يجعلهم سادة أنفسهم، إلا أن مصير العالم انتقل من التنوير إلى الكارثة المطلقة».
ثمة إذن برهان على أن العقل الأداتي قد أرغم التنوير على السقوط في العقل الأسطوري، ذلك أن العقل الأداتي لم ينفصل عن الأسطورة، بل إنها تسكن في ماهيته، وتتحكم في آفاقه، وترغمه على عبادتها، والإخلاص لمقدساتها. بل أكثر من ذلك فإن التنوير لم يكتف بالسقوط في الميثولوجيا، بل استطاع أن يخلق أساطيره الخاصة، وأكبرها أسطورة التقدم التقني، والسيطرة على الطبيعة والإنسان، إلى درجة أنه جعل من الميثولوجيا محركا للتنوير إذ: «أصبحت الأسطورة تنجز التنوير، والتنوير في كل خطوة يغرق أكثر فأكثر في الميثولوجيا». هكذا أضحى التنوير يعني الشمولية «Totalitarisme» وبذلك يكون العقل التنويري قد أنجب نقيضه، وعمل على تقويض مثله، ولذلك تتعين العودة العاجلة إلى جدل العقل، أو بالأحرى الهدم الذاتي للعقل، لأن العقل يقوم بهدم أسسه التي بناها، لكي يتخلص من الاغتراب.
ذلك أن الاغتراب يشدد الخناق على العقل، ويفقده القدرة على الثورة، باعتبارها محركا للتنوير الإنساني، لأن خاصية العقل هي التحرر من السيطرة والعبودية، وهذا بالذات ما جعله في عصر الأنوار يتحرر من التيولوجيا والخرافة، والمعتقدات السحرية، ليصبح أداة لثورة الحرية والحداثة/ لأنه يجب على العقل أن يتوجه بالإنسانية نحو التقدم، بدلا من الضياع في الأساطير، ولذلك ينبغي: «التفكير في التقدم في مرحلة الانهيار أو الكارثة»، كما يقول أدرنو. هناك إمكانية للانعتاق بالتنوير ضد التنوير السلبي، وذلك عندما يتم تفكيك البنية التقليدية للتقدم الذي يتم ربطه بالتحسين الدائم المستمر والمتصاعد في ظل الأنظمة الشمولية، التي حولت العقل من وسيلة للانعتاق، إلى عقلانية أداتية تسيرها قوى لا عقلانية، تستعبد الشعب بالميثولوجيا، ولذلك يجب إشعال نار المقاومة، لأنها وحدها كفيلة بهدم جدلية العبد والسيد، وتحرير الإنسان من سيطرة الإنسان.
فالنقد التنويري أصبح أنطولوجيا تاريخية، بإمكانها أن تسمو بالإنسان من الانحطاط المطلق إلى التقدم الكلي؛ فكريا وسياسيا واقتصاديا، ولعل هذا التقدم هو شعار الفكر التنويري الذي يعري التقدم الزائف المرتبط بالهيمنة والسيطرة ومصلحة العقل الأداتي، وبما أن غاية التنوير ليست سوى التنقيب عن ماهية الإنسان، فإن العقل العلمي للأنوار، سيكون هو هذه الماهية نفسها، ولذلك لابد من إحداث القطيعة الإبيستيمولوجيا بين الأسطورة والعقلانية. فكيف يمكن الوصول إلى هذه القطيعة في مجتمع أسطوري؟ بل كيف يمكن الحديث عن التنوير الإيجابي ونحن لم نجرب حتى التنوير السلبي؟ وهل بإمكاننا أن نهدم الميثولوجيا التقليدية بواسطة الميثولوجيا الفلسفية والأدبية والفنية؟ وما قيمة الخطاب التنويري في المجتمعات التقليدية؟ وهل يمكن تحريرها بالميثولوجيا نفسها؟