عائشة بلحاج
من دون العودة إلى أمين معلوف وهوياته القاتلة، يمكن الحديث عن الهوية واحدا من أقدم الأسئلة الوجودية للإنسان، الذي بدأ الهجرة منذ فقست أول ذرية لآدم. ولم تتردد في أن تدب في الأرض، حاملة نفسها يمينا وشمالا، بحثا عن وطن ملائم لها. على قدمين أو على دابة، لا يهم، المهم الوجهة، حتى لو استغرقت شهورا أو سنوات.
وبينما نعيش في عالم يُزعم فيه أنه لا يهم «مِن أين أنت؟»، بل «مَن أنت؟»، يقول الواقع إن ذلك كل ما يهم. واسأل ذوي الأصول المهاجرة في أوروبا، خصوصا أصحاب الأسماء العربية أو المسلمة، كيف تعاملهم الشركات. وكيف يُغير بعضهم أسماءهم من أجل الاندماج وتفادي الإقصاء من فرص العمل عالية القيمة. أما العنصرية، فلا تسأل عنها. قد لا يواجهها الجميع كل يوم، لكن حتى ولو حدث ذلك أحيانا فقط، تبقى عنصرية تمس بكبرياء (وكرامة) الإنسان الذي يمثل له الانتماء جوهر صفته كائنا اجتماعيا. وإذا فقد الانتماء في ظروف كهذه، يفقد الأمان والاستقرار النفسي.
تقول شابة مغربية هولندية، في «فيديو» على «تيك توك»، إن التلفزيون الهولندي استعمل لأول مرة مصطلح «الهولنديين المغاربة»، بعد أن كان يصفهم بـ«المغربيين». وشعرت الشابة بفرح وفخر شديدين لمنحهم شرعية الانتماء أخيرا. من الصعب تصديق أن هذا الانتقال في القيمة الاجتماعية حققته رياضة ما، لكن كرة القدم تفعله وأكثر، حسب القواعد التي وضعتها جهات تملك المال والقوة. لقد نجحت الكرة في ما فشلت دولنا في منحه للمهاجرين أو المنحدرين منهم، بمساندتهم ولو معنويا.
هل يمكن أن تختار بين أمك ومدرستك؟ «لا أتكلم اللغة، لكنني أعرف من أين أنا»، هذا جواب اللاعب المغربي الهولندي، حكيم زياش، الذي تعرض لضغط شديد من الجمهور الهولندي الذي كان يهاجمه قولا وفعلا، لأنه اختار اللعب للمغرب، بدل هولندا. سأله الصحافي الهولندي: «لو لم تكن هولنديا، مَن تتمنى أن تكون؟» أجابه: «كنت سأختار أن أولد في وطني، حتى لا أُسأل هذه الأسئلة».
وعي الشباب من الجيل الثاني مدهش. إنه جيل جديد فتح عينيه، وهو يملك الفرص في التعلم، وفي العمل نسبيا، لكنه لا يشعر بأنه في بلاده، لأن أهل البلاد ينظرون إليه دخيلا، مهما فعل. منذ البداية، يزرعون فيه الغربة والاغتراب. لولا بعض من العرب الذين يحاولون إشعارهم بالغربة أيضا، حين يريدونهم أن يتكلموا العربية مرغمين، حين عاد هؤلاء الشباب وتألقوا في كأس العالم.
تمنيت فوز المغرب على فرنسا في مباراة بمونديال قطر من أجلنا، لأسباب سياسية وتاريخية، رغم أنني، عادة، لا أحب مزج السياسة بكرة القدم. لكن من الجيد، مع معرفة أثر الكرة ثقافيا ومعنويا، أن نهزمها مرة، في جبهة لم يعتقد أحد أننا قد نصل إليها، نصف نهائي كأس العالم، وبكامل نجومها. ومن أجل جزء من الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة الذين لم تمنحهم سوى الإقصاء، تفاديا لأعمال عنف قد تندلع في بعض المدن الفرنسية. عنف هي من صنعته لا نحن، بين يمينيين متعصبين أو شباب ذوي أصل مغربي أو مغاربي أو إفريقي. لكن فرنسا التي ولدوا وعاشوا فيها، علمتهم العنف والإقصاء والتهميش.
ليس لأوروبا، بما فيها فرنسا، أن تتذمر من اختيار اللاعبين ذوي الأصل المغربي قميص المغرب، وتُنكر الإقصاء والتهميش للمكونات ذات الأصول المهاجرة. لو شعر اللاعب ذو الأصول المغربية بالانتماء إلى بلده الحالي، لما بحثَ عن أصله ليحتضنه عاطفيا ويمنحه هبة الانتماء. لو شعر الشباب الذي يُخرج غضبه في الشوارع بالانتماء، لما حول الفرح أو الحزن إلى عنف، حتى ولو كان هذا العنف مجرد رد فعل على استفزاز اليمين المتطرف، أو نتيجة لقمع مفرط من الشرطة.
الآن، بعد انتهاء حلم المنتخب المغربي ورحلته المبهرة إلى كأس العالم، لن تنتهي أسئلة الهوية لنا، نحن الذين تُطرح عندنا مسائل الهوية أكثر من غيرها، لأن بلداننا عاجزة عن منح أبنائها الفرص والدعم الذي يمنح لهم في الخارج الذي قد لا يمنحهم الانتماء، لكنه يمنحهم الفرص في التعليم والتكوين على حد سواء.
نافذة:
ليس لأوروبا بما فيها فرنسا أن تتذمر من اختيار اللاعبين ذوي الأصل المغربي قميص المغرب وتُنكر الإقصاء والتهميش للمكونات ذات الأصول المهاجرة