بقلم: خالص جلبي
لنتصور أن الجنرال الأمريكي «أيزنهاور» الذي اقتحم أوروبا، في عملية السيد الأعلى «Lord Over»، في الحرب العالمية الثانية، دخل ألمانيا وحافظ على هتلر، بل وهنأه على مذابح «أوشفيتز Auschwitz»، وكافأه على براعته في القتل.. وحافظ على الحزب النازي ومعسكرات الاعتقال الجماعية.
من يقرأ كلماتي هذه سيقول هل جُنَّ اليوم جلبي في مقالته؟ هذا ما حصل في مؤتمر جدة في 19 ماي 2023م، بالحفاوة العربية الأصيلة باستقبال بشار الأسد، الذي ضرب شعبه بسبعين ألف برميل، وسلم البلد إلى القوزاق الروس والفرس، وقتل مليونا ويزيد، ورش الناس بالغازات السامة في الغوطة، بتاريخ 21 غشت عام 2013م، فقتل 1430 خنقا، الأطفال قبل النساء.. وضرب المدن بصواريخ «سكود»، المخصصة لحرب بني صهيون.. وهجر نصف السكان في 15 مليونا من الأنام، هائمين على وجوههم في القارات السبع حتى نيوزيلندا، حيث قتل بعض أقربائي هناك بسلاح إرهابي اقتحم المسجد، وهو يعتمر قبعة مكتوب عليها شارل مارتل (من أوقف المد الإسلامي في بواتييه من فرنسا اليوم، في ما عرفت بمعركة بلاط الشهداء).. واعتقل مئات الآلاف، كشف «قيصر» نهاية عشرات الآلاف منهم، (وهو الاسم السري لمن صور جثث المعذبين). وصديقي الدكتور «عمار»، في حوران، فقد اثنين من أولاده، ولا يعرف حتى الساعة هل ابنه حي فيرجى، أو ميت فينعى؟ المشكلة أن من فقد ذويه يتمنى معرفة مصير الزوج، أو الابن فيعمل له جنازة، أو تتزوج من غاب عنها زوجها.. حتى هذا لم يكافئ النظام السوري المواطن بمعرفته، إلا في قصص سوريالية، كما حصل مع صديقي المهندس «حسان جلمبو»؛ فبعد عشر سنوات من التعذيب والإذلال اليومي، وبواسطة رشوة الفاسدين بمال منهمر من رجال المخابرات والساهرين على تصفية المعارضة، في سجن تدمر الرهيب، فأعطوهم وعدا بإطلاقه وفعلا خرج الرجل، ولكن ليس على قدميه، بل جثة في كيس.. فرح الأهل بالجثة، كما روت لي ابنته، على خوف من فرعون وملئه، فقد عرفوا أن الرجل قضى نحبه، فدفنوه سرا بعد الغسل والتكفين، فالمهندس الوسيم لحق بطوابير الأموات.
لقد قتل النظام السوري الإنسان والزمان والمكان، والبيئة والعلم والعرف والتقاليد والدين، بل وقتل الأمل والمعنى في الحياة. نظام مخابراتي مافيوزي حزبي عائلي طائفي بغيض دموي شرس، يدفن الأحياء وينبش قبور الأموات، سادي يتعلم إبليس على يديه أفانين الجحيم.
لقد نجح النظام السوري في إقناع المواطن السوري بوجود جهنم على الأرض حقا. أتذكر عند هذه القصة ما رواه «جيفري لانغ»، أستاذ الرياضيات الأمريكي الذي اعتنق الإسلام، حين سأل والده إن كان يعتقد بالجنة والنار؟ فحدق بعيدا في الأفق ليجيب، أما الجنة فلا أعرفها، ولكن الجحيم موجودة فعلا.. لقد استطاع نظام السنوريات في سوريا تحويل سوريا إلى جحيم دانتي فعلا، مكتوبة بالدم والآهات وعظيم الأحزان.
الآن سوف يتساءل القارئ ما هي عملية السيد الأعلى؟ وما هي معتقلات «أوشفيتز Auschwitz»؟ لذا كان من الضروري إنارة وعي القارئ بقصص التاريخ، ففيها موعظة للغافلين ودروس للمتقين. أما الأولى فهي اجتياح قوات الحلفاء أوروبا لتحريرها من النازية عام 1944م، لكن العجيب في معسكرات الاعتقال هذه أنها خبئت بعناية بعيدة عن الأنظار في بولندا، حيث يتم التخلص من الملايين بمليون طريقة من اليهود والشيوعيين وخصوم النظام النازي ورجال الدين وأساتذة الجامعة والمفكرين، بل والغجر (Gypsy).
تخلص هتلر من خصومه وبدأ بالشيوعيين في ألمانيا بحادثة حرق الرايخستاغ (البرلمان)، فاتهمهم بحرقه، لكن الأساس أنه صب غضبه وجرائمه ليس على الألمان بالدرجة الأولى كما هو الحال في إسرائيل في ضرب غزة بين حين وآخر، أو البراميلي مع السوريين. وحين يخبرني الفلسطينيون ممن يتابعون أفكاري عن وحشية بني صهيون، فجوابي: هم العدو فماذا تتوقعون؟ ولكن لم تقتل إسرائيل منذ أن خلقها الغرب، قبل 75 سنة، في كل حروبها عشر معشار ما قتل البراميلي في سوريا.. فهل يمكن فهم كم مأساتنا فظيعة؟ كما جاء في القرآن في سورة «الحشر»، (بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى).
ولكن ثمة أسئلة أمام مجلس الجامعة العبرية عفوا العربية، الذي لم يجتمع على خير قط.. ولكن كما قال المثل: تمخض الجبل فولد فأرا وسكت دهرا فنطق كفرا. وكذب النظام في كل شيء، إلا فقرة واحدة: الأسد أو نحرق البلد.
هل التاريخ عبثي؟ هل يمضي المجرم بجرائمه ويفلت من العقاب؟ حسب القرآن، ومن أربعة منطلقات يمكن وضع فلسفة للفهم؛ فهو يرى أن القرى تهلك بالظلم الداخلي، وأن أفظع ألوان العذاب ليس أن يأتيهم من فوقهم أو من تحت أرجلهم، بل أن يجعلهم شيعا فيذيق بعضهم بأس بعض، وأن الكون وحدة مغلقة فلو طارت فراشة في سان فرانسيسكو فقد تحدث تايفون في اليابان، وأن الشعب السوري لو قطع الطريق على انقلاب 1963م البعثي الطائفي، لم يكن ليتكلف حياة أربعين شهيدا مقابل أربعين ألفا في حماة عام 1982م، ولو انتفضت سوريا في مذبحة حماة، لوفرت دم 400 ألف ضحية، بل ضعف هذا الرقم عام 2011م، بل أزعم أن العالم لو تدخل لإنقاذ سوريا الذبيحة، لما دفع الثمن في هلاك عشرة ملايين في «كوفيد- 19»؟
علينا فتح صفحات التاريخ لنرى طواغيت كثر مروا في صفحاته، فلم يتركوا سوى الأسف واللعنة وسوء العاقبة، مثل ستالين الذي كان يرى أن قتل إنسان تراجيديا، ولكن إفناء شعب لا يزيد على مسألة إحصائية. ونموذج فرانكو الذي قهر شعبه وتمدد على جثث الضحايا، كما خلد ذلك بيكاسو في لوحته المشهورة «جورنيكا»، كانت نهايته أن الشعب الإسباني يسبح اليوم في واحة الحرية والرخاء، وأصبح نظام فرانكو في مزبلة التاريخ. وحين نرى «زيلينسكي» الأوكراني في اجتماع العرب العاربة والمستعربة والمستعمرة والمتأمركة، فأمامنا لغز يحتاج للفك؟
مع عام 2011م، استبشرنا بربيع قادم لنكتشف أن أقدامنا تغطس في أوحال شتاء قارس زمهرير، وعلينا تعلم قراءة الأنواء من جديد. لكن الألم يطهر والشعوب تتعلم بالمعاناة، وأن نهاية البراميلي وخيمة، وأن دورة الفلك لا تخيب، فمن رحم الظلام يولد النور، وبعد الليل يسطع الفجر البهيج؛ فليستبشر المؤمنون بصدق التاريخ أنه علم لا يخيب. ويسألونك أحق هو؟ قل أي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين.
وفي الإنجيل نداء لأورشليم: يا أورشليم يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين، وددت أن أحضنك كما تفعل الدجاجة مع فراخها. الويل لكم أيها القادة العميان، إنكم مثل القبور من الخارج مطلية بالأبيض، ومن الداخل نجاسات وعظام أموات.. وكذلك جامعة الدول العبرية.
نافذة:
مع عام 2011م استبشرنا بربيع قادم لنكتشف أن أقدامنا تغطس في أوحال شتاء قارس زمهرير وعلينا تعلم قراءة الأنواء من جديد لكن الألم يطهر والشعوب تتعلم بالمعاناة