الزيتوني
أتحفنا الشاب خالد، قبل ثلاثة عقود من الزمن، بمقطوعته الموسيقية الفريدة «ديدي»، التي عجز العالم عن فهم معناها الفني أو فك رموزها اللغوية. لقد عاش أبناء جيل الثمانينات والتسعينات في حيرة من أمرهم طيلة هذه السنوات وهم يفكرون في حقيقة ما كان يقصده ملك الراي وهو يردد مبتسما ومتحمسا كلمات ليست كالكلمات.. وككل تحفة أثرية نادرة، لم نتمكن من استكشاف السر الخفي وراء «ديدي واه ديدي» سوى في الأسابيع الأخيرة الماضية، حين استيقظ العالم على وقع واحدة من أكبر فضائح الوسط الفني الهوليودي عبر التاريخ. شهدنا جميعا السقوط المأساوي لإمبراطورية «شون كومب» الشهير بـ«ديدي»، الذي تبين أنه كان يدير مافيا عابرة للقارات للاتجار بالبشر، إذ أظهرت العديد من التقارير أن «ديدي» كان يبتز الفنانين الصاعدين ويطلب منهم الجنس مقابل الشهرة، بل وذهب البعض إلى أبعد من ذلك حين اتهموا «ملك حفلات سدوم وعمورة العهد الحديث» بأنه كان يغتصب باستمرار العديد من مشاهير عالم الراب والهيب هوب وعلى رأسهم المغني جاستن بيبر.. وبهذه الفضيحة الأخلاقية المقيتة نكون قد توصلنا أخيرا إلى فك لغز أغنية «ديدي» وفهم المقصود منها بشكل واضح.
فكيف انحرفت موسيقى الراب عن مسارها النضالي الإنساني كواحدة من أقوى الحركات الموسيقية المناهضة للعنصرية في العصر الحديث، وكيف تحول الراب من احتجاج مرئي على الظلم إلى أداة لممارسة الابتزاز والترهيب؟ قبل أن يسيء «ديدي» إلى سمعة الراب بتصرفاته السيكوباتية المقززة، كانت موسيقى الراب عبارة عن مساحة آمنة لمنبوذي العالم يعبرون فيها عن السخط والحنق والاحباط من استعلاء الرجل الأبيض وتسلط الشرطة وسياسات التفقير الممنهجة ضد السود. موسيقى الراب هي صرخة من عمق الألم الإنساني، ثورة ضد التفرقة العنصرية والطبقية والاستغلال. الراب هو وقع صوت أغلال العبيد المنكسرة في وجه الأسياد.. فكيف كان حال الراب في البدايات قبل أن تلوثه أيادي شركات الإنتاج الجشعة؟
نشأت موسيقى الراب في برونكس، نيويورك، خلال سبعينيات القرن العشرين كجزء من حركة الهيب هوب الأوسع، وتطورت لتصبح ظاهرة عالمية قوية. وعلى مر العقود، تجاوزت جذورها لتؤثر ليس فقط على الموسيقى ولكن أيضا على الموضة واللغة والحركات الاجتماعية ووسائل الإعلام في جميع أنحاء العالم. ومنذ بدايتها كصوت للمجتمعات المهمشة، نمت موسيقى الراب لتصبح قوة ثقافية مهيمنة تشكل وتعكس الاتجاهات المجتمعية.
ظهرت موسيقى الراب كشكل من أشكال سرد القصص، وغالبا ما تعالج صراعات المجتمعات الأفريقية واللاتينية المنصهرة داخل البوتقة الأمريكية. استخدم رواد مثل جراند ماستر فلاش وفوريوس فايف موسيقى الراب لإلقاء الضوء على القضايا النظامية، مع مسارات مثل The Message التي تناولت الفقر والظلم الاجتماعي. ومع تطور النوع، تنوع في الأسلوب والمحتوى، وتأثر واستعار من أنواع أخرى مثل موسيقى الجاز والريجي والفانك والموسيقى الإلكترونية.
كانت هذه القدرة على التكيف أساسية لتوسع موسيقى الراب. لقد جلب فنانون مثل توباك شاكور ونوتوريوس بي آي جي عمقا عاطفيا وتأملا داخليا لهذا النوع، بينما أظهر آخرون مثل جاي زي وكاني ويست إمكاناته التجارية. بدأت عولمة الراب في الثمانينيات والتسعينيات، وساعد على ذلك انتشار قناة إم تي في والإنترنت، ومنصات البث لاحقا. واليوم، لم يعد الراب مجرد نوع مهيمن في الولايات المتحدة فحسب، بل إنه أيضا عنصر ثقافي عالمي أساسي.
إن إحدى أهم مساهمات الراب في الثقافة الشعبية تأثيره على المشهد الموسيقي العالمي. فقد تبنت البلدان في جميع أنحاء العالم الراب وقامت بتكييفه ليعكس الثقافات واللغات والقضايا الاجتماعية المحلية. على سبيل المثال، يمزج الراب الفرنسي، بقيادة فنانين مثل «آي إيه إم» «وإم سي سولار»، بين إيقاع الراب الأمريكي وأسلوبه مع التأثيرات الأوروبية والأفريقية، ويتناول موضوعات مثل الهجرة والهوية وعدم المساواة.
وعلى نحو مماثل، في كوريا الجنوبية، أصبح الراب عنصرا أساسيا في صناعة البوب الكورية التي تحظى بشعبية كبيرة. يدمج فنانون مثل «بي تي أس» «وجي دراغون» الراب في موسيقاهم، ويمزجونه بعناصر كورية تقليدية لخلق صوت فريد يتردد صداه لدى الجماهير الدولية. وفي أفريقيا، يدمج الفنانون النيجيريون والجنوب أفارقة الراب مع أفروبيت والموسيقى التقليدية لصياغة أنواع مثل أفروبتراب. وتسلط هذه التعديلات المحلية الضوء على تنوع الراب وقدرته على العمل كصوت للمجتمعات المتنوعة.
لطالما كان الراب وسيلة للتعبير الاجتماعي والسياسي، وهو تقليد مستمر حتى اليوم. يستخدم فنانون مثل كندريك لامار وجيه كول موسيقاهم لمعالجة قضايا مثل العنصرية المنهجية ووحشية الشرطة والصحة العقلية. أصبحت أغان مثل أغنية Alright للمغني لامار نشيدا لحركات العدالة الاجتماعية، بما في ذلك حركة Black Lives Matter، مما أدى إلى تضخيم الدعوات للتغيير.
لا يشكل المغرب استثناء حين يتعلق الأمر بالراب كأداة للتعبير الحر والاحتجاج على الفقر والظلم والحكرة. لقد نجح العديد من «الروابة» في تقديم أغان تلامس عمق الشارع وتعكس تطلعات الشباب الذي يجد نفسه في «تراكات» كل من البيغ والبوز وطوطو وديزي دروس وغيرهم الكثير من الفنانين الذين يشكل صوتهم إزعاجا للسلطة التي تعتبر الاحتجاج بالموسيقى أخطر من الرصاص.. ولكن كما قال أحد الحكماء؛ لي جا قدو الصباط يلبسو.