شوف تشوف

الرأي

السيدة التي لا يعرفها أحد

يونس جنوحي
بالأمس احتفل العالم، ومعه نحن بطبيعة الحال، باليوم العالمي للنساء. وفي غمرة تبادل التهاني وإعطاء الكلمة للواتي يحملن على عاتقهن مسؤولية إعالة النساء والرجال أيضا، ضاعت نسوة لم ينصفهن أحد وربما لا يعلم أحد أصلا بوجودهن.
هن لسن بيننا اليوم، بل رحلن عن عالمنا هذا قبل سبعين سنة تقريبا. يتعلق الأمر بزوجات العلماء الذين عاشوا في المنطقة الخليفية التي كانت تحت نفوذ الإسبان أيام الحماية، واللواتي غمرت قبورهن بمياه الأمطار التي عرفتها مدينة تطوان والنواحي مؤخرا.
كما أن مدبري الشأن العام في المدن المغربية، لا يعيرون أي اهتمام للأدوار التي لعبتها النساء في صناعة الذاكرة الجماعية للمغاربة خلال هذا القرن والذي قبله.
تصوروا مثلا أن زوجات العلماء الذين ينتمون للأسر الشهيرة في شمال المغرب وفي فاس، لا يعرف عنهن المغاربة أي شيء، رغم أنهن الوحيدات اللواتي قمن بصيانة أرشيف أزواجهن قبل أن تصل إليه أيادي الباحثين ومؤسسات الأرشيف الرسمية.
زوجة دبلوماسي مغربي تهدي أرشيفه الخاص لمؤسسة أرشيف المغرب، وأرملة عبد الرحمن اليوسفي عملت شخصيا على تنفيذ وصيته، وأرملة المهدي المنجرة بدورها قامت بتسليم كل أوراق الرجل وأرشيفه الخاص وحتى المسودات التي كان يضع عليها أفكاره قبل طرحها في كتاباته، لكي تصبح رهن إشارة الباحثين.
وجيل النساء الذي نتحدث عنه اليوم مُتن قبل أن تتم مأسسة الأرشيف. قام رسام إسباني بإهداء لوحة فنية إلى العالم المغربي عبد الله كنون، الذي توجد داره بالمناسبة في مدينة طنجة، وحافظ عليها هذا الأخير بفضل حرص زوجته على صيانة كتاباته وتقديرها، ولا أحد من الباحثين سلط الضوء على حياة تلك المرأة التي انصهرت في ظل قامة فكرية مغربية واكبت مرحلة الاستقلال.
هناك قصة مثيرة، لعل الذكرى تنفع هؤلاء الذين فرقوا الورود بالأمس على النساء اللواتي يصبحن «عدوا» لهم في اليوم الموالي. يتعلق الأمر بزوجة أحد أعيان منطقة الشمال، حيث كان نفوذه يتمركز نواحي تطوان، وكان اسمه أبو بكر التاويت، أو هكذا أسماه الصحافي الأمريكي “توم ماكامري” الذي كتب عن مواطنه «بيرديكاريس» الذي اختطفه الريسولي بداية القرن الماضي وطلب فدية من البيت الأبيض مقابل إطلاق سراحه.
هذا الصحافي الذي أعد ربورتاجا نشر في «نيويورك تريبين» ذكر أن هذا الثري المغربي استضافه في مزرعته التي كانت معزولة تماما عن العالم، وعرض عليه أن يتناول معه طعام الغداء، ففوجئ الصحافي بأن المأدبة لم تكن كما توقعها. صحن من القطاني الشتوية، وكسرة خبز.
وعندما رأى أبو بكر أن الصحافي الأمريكي مندهش لتلك «الإهانة» كما أسماها، أخبره أبو بكر أن زوجته لم تستطع إعداد وجبة غذاء تليق بالرجل لأنها كانت منهمكة في نسخ كتاب جاء به أحد أصدقائه من الحج، ويتعلق بشرح لأحكام الدين الإسلامي.
وعندما سأل الصحافي أبا بكر عن سر إيلاء هذه المهمة إلى زوجته ولم يقم بها بنفسه، أخبره أنه لا يعرف الكتابة، لكن زوجته درست في جامع الأزهر في مصر وفي القرويين بفاس، وتقوم بجمع الكتب حتى أن مكتبتها الخاصة كانت تشغل حيزا مهما من الدار الكبيرة في قلب الضيعة التي اعتكفت داخلها للعلم.
مضى أكثر من قرن على حياة هذه السيدة التي لم نعلم لها اسما، بحكم أن المقال لم يُشر لها لا من قريب ولا من بعيد. والله أعلم بمصيرها وزوجها، خصوصا أن المنطقة وقتها عرفت حربا ضد الإسبان حيث هاجر عدد كبير من أثرياء المغرب المجهولين وتشتتوا فوق الخريطة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى