شوف تشوف

الرأي

السياسة والليرة التركية

 

محمد أحمد بنيس

يصعب النظر إلى أزمة الليرة التركية بمعزل عن تموضع تركيا، ضمن معادلات القوة والنفوذ في المنطقة. وعلى الرغم من أن كثيرين يعزون الأزمة إلى اختلالات بنيوية في الاقتصاد التركي، غير أن ربطها بمؤامرة خارجية يبقى حاضرا في تصريحات وتحليلات وتقارير مختلفة، في ضوء ما يتردد عن كشف مخطط تقوده بنوك أجنبية لإضعاف الليرة، وضرب مقومات الاقتصاد التركي.

لسنوات، حظيت النهضة الاقتصادية في تركيا باهتمام دولي لافت، خصوصا أنها كانت مسنودة بتحول ديمقراطي. وشكل التنوع في الموارد أهم سمات هذه النهضة، فقد نجح الاقتصاد التركي في بناء نموذج اقتصادي أكثر إنصافا للفئات المتوسطة والفقيرة، لكن إخفاق حزب العدالة والتنمية، الذي يقود الحكومة منذ 2002، في انتهاج سياسة نقدية متسقة أثر بهذه النهضة. فبينما عمل البنك المركزي التركي على رفع سعر الفائدة، رأى الرئيس، أردوغان، في تخفيضه ضرورة لتحقيق النمو الاقتصادي المنشود. وقد أدى هذا الوضع إلى تراجع احتياطي النقد الأجنبي، وارتفاع الأسعار ومعدل التضخم. بيد أن استمرار تحقيق الاقتصاد التركي مؤشرات إيجابية، من قبيل تدني نسبة الدين العمومي وتراجع عجز الموازنة ومعدل البطالة، أعاد إلى الواجهة سردية المؤامرة الخارجية في تفسير أزمة الليرة، فقد بات الصعود التركي في المنطقة مزعجا لقوى إقليمية ودولية، سيما أن مجابهته بالقوة العسكرية، كما حدث في أفغانستان والعراق، أمر يكاد يكون مستحيلا، فتركيا دولة ديمقراطية ينتخب فيها الرئيس والبرلمان، وبها معارضة قوية ومساحة من حرية الإعلام والصحافة. كذلك لا يزال الإرث السياسي الكمالي عنصرا رئيسا في بنية الدولة. صحيح أن هناك بعض السلطوية في سلوك الرئيس التركي، لكنها تصطدم بمؤسسات ديمقراطية ما فتئت تترسخ أكثر داخل المجتمع، وأيضا بنفوذ لا يزال يحتفظ به الجيش، على الرغم من تراجع دوره السياسي. وإذا وضعنا ذلك كله في ضوء أداء الدبلوماسية التركية وقدرتها على إعادة التموضع في مواجهة التحولات الإقليمية، ندرك الصعوبة التي تجابه خصوم تركيا في الحد من تمددها بالمنطقة.

ومع إخفاق الانقلاب الذي قادته بعض عناصر الجيش على أردوغان (2016)، أصبح واضحا أن هناك حرب محاور بالمنطقة تشكل أنقرة جزءا رئيسا منها، ومن ذلك رفض تركيا قيام أي كيان سياسي كردي بشمال العراق وسوريا، باعتبار ذلك تهديدا للأمن القومي التركي. كذلك شكل التدخل التركي في ليبيا تحديا لهذه القوى، التي دعمت قوات خليفة حفتر في مواجهة حكومة الوفاق الوطني، هذا دون إغفال انحياز تركيا إلى أذربيجان في حربها مع أرمينيا، ودخولها على خط حروب الغاز بشرق البحر الأبيض المتوسط، وهما عاملان آخران أسهما في رفع منسوب التوجس لدى القوى الإقليمية والدولية الكبرى من التمدد التركي من المتوسط إلى آسيا الوسطى.

يدرك أردوغان الأبعاد التي تنطوي عليها أزمة الليرة، ولذلك يحاول التوفيق بين تبعات تخفيض سعر الفائدة، والتراجع المتواصل في قيمة الليرة. ويدرك أيضا أن للأمر حسابات انتخابية تتخطى الداخل نحو الخارج، حيث تتطلع دول مناهضة لسياساته إلى أن تشكل الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة (2023) فرصة للتخلص منه ومن حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، ضمن سعيها إلى إعادة صياغة توازنات القوة والنفوذ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى