شوف تشوف

الرأي

السياسة والطب: سلطة الحماية والتحصين

السيد ولد أباه

يقدم لنا الفيلسوف الإيطالي، روربتو سبوزيتو، في كتابه الصادر هذه الأيام بعنوان: «المؤسسات» (istituzioni) مقاربة فكرية جديدة حول علاقة النظم الهيكلية للدولة والمجتمع بطبيعة ونمط الحياة المعيشة، بما لا تخفى أهميته في اللحظة الراهنة التي يعيش فيها العالم، منذ أكثر من سنة، أخطر أزمة صحية في التاريخ المعاصر.
بعد حفر فلسفي معمق في ظاهرة «الجماعة» (communitas) وفي مفهوم «المناعة» (immunitas)، يندرج الكتاب الأخير في التوجه نفسه الذي هو استئناف البحث النظري والإشكالي في نمط السلطة الحيوية الذي كان الفيلسوف الفرنسي، ميشال فوكو، في أعماله الأخيرة قد اعتبر أنه مقوم نظام التدبير والحكم في المجتمعات المعاصرة، بما يعنيه من تمحور السياسات العمومية على أوضاع السكان ورغباتهم وحالتهم الصحية.
وفق هذا التصور، يبرز سبوزيتو كيف أن إطار الشرعية السياسية والقانونية للدولة الحديثة يقوم على تحصين الجماعة بالمفهوم الطبي من مخاطر التلوث والعدوى والاختراق.. للحفاظ على هوية وتماسك المجموعة المدنية.
وإذا كانت السيادة تعني في دلالتها الراهنة ذات الجذور الهوبزية سلطة الاستثناء والتحكم الإطلاقي، ما دامت الدولة نفسها هي مصدر القانون الذي هو ضابط الشرعية، فإن وظيفة التحصين تتجاوز الأبعاد القانونية الثابتة، من حيث كونها تبرر تعطيل المؤسسات والنظم لحماية الأفراد والمجتمعات.
ذلك ما نلمسه اليوم مع جائحة كورونا، حيث لم تختلف دول العالم على تباين أنظمتها السياسية في إجراءات الغلق والحصار والعزل المكاني، التي نقلت من قاموس الوقاية الصحية إلى القاموس السياسي والاجتماعي.
وفي كتابه الأخير حول المؤسسات، يعيد سبوزيتو معالجة الإشكالية الفلسفية القديمة المتعلقة ببعدي الحياة البيولوجية الطبيعية (الحياة العارية، حسب عبارة فالتر بنيامين) ونمط العيش الثقافي المنظم (الحياة الهيكلية، حسب التسمية الرومانية القديمة)، في مرحلة أصبح فيها الحفاظ على البقاء في الوجود المطلب الأول للسياسات الحيوية.
ما يبينه سبوزيتو هو أن نظامي العقل (اللوغوس) والقيم (النوموس) لا يمكنهما الانفصام عن البعد البيولوجي في الحياة. بل إن الحداثة السياسية منذ اللحظة الهوبزية تأسست على شرعية استمرارية الحياة الطبيعية للإنسان وحفظه من الموت العنيف، بحيث تكون الوظيفة الأساسية للدولة ليست تحقيق الفضيلة المدنية، كما كان يقول أرسطو وفلاسفة المدن الفاضلة في العصور الوسطى، بل تحصين الأفراد والمجتمعات من التحلل والتلاشي والعدم.
ومع موجة كورونا الحالية، يصبح التحدي الأساسي هو الدفاع عن الحياة المعنوية المؤسسية (الحياة الجماعية التواصلية المشتركة) التي تمت التضحية بها من أجل حفظ المستوى البيولوجي الأول من الحياة.
ما يخلص إليه سبوزيتو هو أن نظام السلطة الحيوية غدا اليوم متمحورا حول ثلاثة مستويات كبرى هي:
– انتقال الأهداف السياسية من الأفراد إلى أصناف اجتماعية بعينها من السكان، مثل المجموعات التي تعتبر خطرا على المجموعة باعتبارها حاملة لفيروسات ناقلة للعدوى، ومن ثم ضرورة عزلها وإغلاق السياج الاجتماعي دونها. إن هذا المفهوم يتجاوز الحيز الطبي ليشمل مجموعات أخرى مثل المهاجرين واللاجئين، الذين أصبحوا الخطر الأكبر بالنسبة إلى الاتجاهات الشعبوية الجديدة في الغرب.
– المسار المزدوج للقولبة الطبية للسياسة وتسييس الطب، بما نلمسه بوضوح في تزايد الوظيفة التحصينية الوقائية للسياسة، وانخراط الإجراءات والنظم الطبية في الملفات السياسية والأمنية.
– الانتقال من نظام الضبط القانوني في المجتمعات الديمقراطية إلى إجراءات الاستثناء الاستعجالي، التي في طورها إلى أن تصبح الحالة التشريعية الأكثر بروزا واستمرارية، في مقابل المدونات المعيارية الثابتة المفصلة.
إن الميزة الكبرى في كتاب سبوزيتو هي كونه يخرجنا من الجدل العقيم الذي طبع السياق الفكري الغربي في السنة الماضية، ما بين الأطروحة المدافعة عن النظام الحمائي الصارم الذي لجأت إليه الدول الديمقراطية، من أجل مواجهة الجائحة القاتلة، والأطروحة المقابلة التي ترى في هذه الإجراءات التحصينية نمطا من تجسيد الحالة الاستثنائية التحكمية، التي غدت المعيار القانوني الناظم لأوضاع الدولة الحديثة، دون اختلاف حقيقي بين الأحكام الاستبدادية والحكومات الديمقراطية.
ما يدعو إليه سبوزيتو هو الحفاظ على جدلية الحياة والمؤسسة، أي الفاعلية الحيوية النشطة التي هي أفق التحول والإبداع والنسق الهيكلي، الذي لا بد منه لضمان سير واستقرار وتماسك المجتمعات. ومن هنا أهمية النموذج الطبي في السياسة من حيث كونه يجمع بين وظيفتي التحصين والحماية من جهة، وتحقيق رفاهية العيش وسعادته من جهة أخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى