حظي النظام الكندي في الامتحانات والمباريات بانتشار دولي واسع، فكانت الولايات المتحدة أول دولة تستورده، ثم تبعتها الدول الأوروبية، وباقي دول العالم.
ففي فرنسا تم تبني هذا النظام سنة 2004، وتبعها المغرب بعد سنتين، حيث تم تطبيقه في مباراة ولوج كلية الطب بالرباط لأول مرة، وبعد ذلك سينتشر اعتمادُه في امتحانات ومباريات كثيرة.
هذا النظام قد يكون فعالا في مجالات علمية وتقنية حيث اثنان زائد ثلاثة تساوي خمسة، وحيث جزيء واحد من الأوكسجين واثنان من الهيدروجين تشكل المركب الكيميائي لمادة الماء مثلا، ولكن في مجالات مهنية حيث لا يكون الحفظ كافيا لبلوغ مرتبة الإتقان، وحيث المهارات غير مشروطة بالمعلومات الأكاديمية، يبدو هذا النظام ليس فقط فاقدا للمصداقية بل مضرا أيضا.
فهذا النظام لم يعد معمولا به في منبته الأصلي. ففي كندا كما في أمريكا، تم تقليص الاعتماد على هذا النظام في المباريات والامتحانات، بل تم تقليص اعتماد الشهادات الأكاديمية في التوظيف. حيث يتم وضع توصيفات للمهارات المطلوبة في أي منصب شاغر، وكل من يقدر على القيام بالمهام المطلوبة وتحقيق نتائج عملية يمكنه التقدم للمنصب، ولا أحد سيسأله عن الجامعة أو المعهد الذي تخرج منه، أو الشهادة التي حصل عليها. إذ لا أحد سيسأله عن تاريخ الحواسيب ومكوناتها التقنية وغيرها من المعلومات، بل سيُطلب منه حل المشكلات وإنجاز المهام عمليا.
فالذي يهم اليوم هو ما أنت قادر فعليا على إنجازه، والمشكلات التي بإمكانك التعامل معها وحلها، أما دراستك الأكاديمية فلم تعد اليوم تضمن لك خبزا. لذلك لما سئل مؤسس شركة التسويق الرقمي الصينية العملاقة “علي بابا” عن شروط التوظيف في شركاته، أجاب بأنه لا يوظف أصحاب المعدلات الكبيرة، لأن معدلاتهم تدل على أنهم متفوقون في المعارف فقط وليسوا متفوقين في الحياة لأنهم لم يعيشوا أية تجارب عندما كانوا يدرسون.
فالمشكلة التي يطرحها النظام الكندي هي أن معرفتك النظرية بقوانين اللعب في كرة القدم مثلا، وأساليب اللعب لا تجعل منك لاعبا ماهرا، ومعرفتك ببحور الشعر لا تجعل منك شاعر مُلهَما، ومعرفتك بالوضعية الإعرابية للفاعل والمفعول به والحال لا تجعل منك كاتبا جيدا.
هذا أضحى بديهيا اليوم في الحلقات الأكاديمية المتخصصة، لذلك فإصرار القطاعات العمومية عندنا اليوم على تبنيه هو أمر غير مفهوم، وخصوصا عند التوظيف في قطاعات حيوية، وعلى رأسها التعليم.
هكذا لم يكن حدث اعتماد ما يعرف بـ”السؤال متعدد الاختيارات” أو “QCM”، في مباراة المحاماة استثناء، فقد جرت العادة في العديد من القطاعات، كالصحة والتعليم مثلا، على صياغة الشق الكتابي من مبارياتها بهذه الصيغة. وفي قطاع التعليم تحديدا لطالما طرح إشكال على مستوى فعالية هذه الآلية التقويمية في قياس الاستعدادات العقلية والمعرفية والنفسية لدى المترشحين.
ما يميز مباريات وزارة التربية الوطنية هو أن عموم المقبلين عليها هم من الطبقة المتوسطة وما أدناها، لذلك تمر كل الشكاوى التي تسجل سنويا بخصوص نتائج الشق الكتابي دون صدى إعلامي كبير، وذلك خلافا لمباريات أخرى تحظى بإقبال كبير من طرف الأغنياء والسياسيين وكبار الموظفين وأبنائهم جميعا، كما هو الحال في مباريات الطب والمحاماة وغيرها، لذلك قليلة هي الاهتمامات الإعلامية والحزبية والنقابية بآلية الاختبار سابقة الذكر في وزارة التربية الوطنية، مع أن اعتمادها كان دوما موضوع تشكيك من طرف خبراء التربية بسبب عدم فعاليتها في مجال التربية تحديدا.
من جانب آخر، قد نتفهم بأن تدبير مباراة تعرف إقبال 200 ألف مترشح أمر غير سهل وتتطلب إجراءات أكثر فعالية ونجاعة لربح الوقت من جهة وضمان درجة محترمة من المصداقية، كما حدث في المباراة الأخيرة في قطاع التعليم، لكن ما حدث في مادتي الفرنسية والرياضيات من رفض كبير لمترشحين توفقوا في الشق الكتابي وفشلوا في الشق الشفوي هو دليل على أن هذه الآلية لا يعول عليها لتوظيف مدرسين. والتقارير التي صاغتها لجان الشق الشفوي مليئة بملاحظات تهم مترشحين ساعدتهم الصدفة للنجاح في الشق الكتابي، ولكنهم لا يستطيعون تركيب جملة مفيدة أو تقديم معلومة صحيحة أمام لجنة مختصة.
إن المؤكد هو أنه ليس كل حافظ لمعلقات شعراء الجاهلية ولنظريات النقد وعناوين الروايات قادرا على تدريس اللغة العربية، كما أن الحافظ لأسماء الفلاسفة والمفكرين وكتبهم وتواريخ ميلادهم ليس بالضرورة قادرا على تدريس مادة الفلسفة التي تستهدف تنمية الفكر النقدي عند التلاميذ. لذلك لا مناص من التفكير في آلية جديدة قادرة على قياس الأبعاد المختلفة لشخصية المترشح، لتشمل ليس فقط الذاكرة وما تختزنه من معلومات، بل الجوانب الوجدانية والاجتماعية والنفسية. لأنه بدون هذه الأبعاد سيبقى المترشحون مجرد آلات تحفظ وتتذكر وتعيد إنتاج ما حفظته، أو يلجؤون لهواتفهم لسرقة “نجاح” لا يستحقونه.