الزر
– اصنعي الحدث وكوني أكثر جرأة وتحديا.. لمَ لا توقفين زحفك الجنوني هذا؟ لمَ لا تتصرفين كامرأة عفراء متزنة وقورة؟ فقد يزيدك ذلك جمالا وسحرا لم يخترقْ بعدُ أفقَ توقعاتِكِ..
أحسَّتْ بقوة اقتراحه، وفكرت بأن لديه إمكانيات عالية في الحوار، وربما في الإقناع أيضا .. لكن مع من؟ إنها لا تسلم بسهولة، ولا تضعف أمام هذا الكلام، لأنها أطلقت سراح اليأسِ الذي انتعشَ فتراتٍ بداخلها.
فتح السيد منتصر بوابة العمارة ببطء شديد، توقف لحظة ثم تسحب إلى الداخل، دون أن يترك مجالا لأي صدى، وكأنه يستوعب ما يحدث، مشى في الممر المؤدي إلى المصعد بخطوات متأنية، من غير أن يلتفت إلى زر النور على يمينه.. كانت عيناه تلمعان وسط الظلمة، كان وسيما وكان إحساسه بذلك يمنحه الوثوق بنفسه؛ لكم كانت نظراته تختزل تلك الثقة.. وكم كانت حركاتها تتبعثر كليا أمام نظرات عينيه التي تمعن في الاستغراق، ما يجعلها تدخل في لحظات عشق صوفية لا يمكن لأحد أن يفهم معناها أو يشعر بلذاتها سواها.
– مساء الخير
– مرحبا..
ردَّتْ (هبة) وهي تبلع ما تبقى من ريقها، حاولت الوقوف لكنها عجزت عن ذلك، وربما تعمدت عجزها لكي تبدع في ما هو آت…
– ماذا وقع منكِ..؟ دعيني أساعدكِ
– حسناً لا داعي لأن تتعب حالكْ أنا أجمعها حالاً.
– أبدا ليس من المروءة.. سأساعدك…
ساد بعض الصمت الذي يلفُّه الظلام، وصار هو يجمع محتويات الحقيبة وقد انحنى مثلما ينحني رياضيو كرة القدم، أثناء التقاط الصور التذكارية، كانت يدُه تتعقب الأشياء، لكن عينيه لا تبحثان إلا عن بريق في عينيها، هي التي لم تقْوَ على أي رد فعل ذي معنى، بل إنها ظلت مطأطئةً رأسها، وقد وضعت يدَها اليسرى فوق فتحة زر القميص، لا لشيء محدد، فقط لأن مسألة الفتوحات بدت لها سابقة لأوانها، أو لأنها لم تمتلك بعد ما يكفي من الجرأة لذلك.. لمْ تستطعْ فكّ رموز لحظة يسودها صمت صاخب بالمعاني، وبالكلمات الهاربة والمنفلتة.. كانت تحاول أن تخفي ذلك التَّلف الذي أصاب حواسها فجأة، وكأنها أضاعتِ اللغةَ والفكرَ معاً، ولم يتبقَّ سوى صوتِ نبضٍ ينبعث من مكان قصيٍّ بداخلها. لكن أمراً غريباً يجعلها أنثى ضعيفة حدَّ الرِّقْ، ذاك ما يحدث معها فعلا، كلما وقع نظرُها على أناملِ رجلٍ تنصع بياضا ونقاءَ، خصوصا إذا لم تكن قد دنستها قطعةٌ من فضة أو ذهب. ابتسمتْ (هبة) وتنفست الصعداء، عندما وجدتْ كفَّيْ الرجل بيضاوين من دون سوءْ، فذلك يدل على أنه لم يلِجْ قفصاً بعد، ثم إن الأكف البيضاء الناعمة والمكتنزة قليلا، كانت تعني بالنسبة إليها كثيرا من الحنان والكرم والأنفة.. وضع السيد (منتصر) كلَّ المحتويات في الحقيبة، إلا قطعة شوكولاته صغيرة حملها بين أصبعيه، دون أن يقطع حبل نظراته التي كانت تسيطر على المشهد برمته، مركزاً على مورفولوجيا كائن مؤنث، قد لفت انتباهه أكثر من مرة وهو يقفز أمامه مثل غزال تاه عن السرب.
(يتبع)