شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرثقافة وفنحوار

الروائي الأردني أيمن العتوم قال في حوار مع «الأخبار»: لا نقدنا نقد ولا ترجمتنا ترجمة

أيمن العتوم: لست إذاعة تقدم ما يطلبه المستمعون

حاوره: د. خالد فتحي

مقالات ذات صلة

 

يتعدى الروائي أيمن العتوم كونه أديبا أردنيا وعربيا مبدعا وفذا، إلى كونه ملهما ومعلما لفنون الرواية. إنه لظاهرة أدبية حقيقية بإنتاجه الغزير المتدفق، وتعدد الينابيع المعرفية والفكرية التي يغرف منها خياله، ولغته الرائقة الجزلة الفخمة، وأسلوبه الجذاب الجميل المنساب. فيه تتحد الصنعة الروائية بالموهبة، فتكتملان وتتكاملان، حتى أنك حين تحاوره أو تسمعه، لا تشبع ولا ترتوي. فتتبقى لديك أسئلة عالقة، ويتضاعف شغفك كي تتزيد من هذا الرائد الجهبذ، الذي يعد مدرسة أو أمة وحده في الرواية.
في هذا الحوار نغوص في عوالم وتفاصيل الكتابة وطقوسها، وشروطها، وطرائقها، بل وفي عذاباتها أيضا لدى أيمن العتوم، محاولين أن ننقل إليكم مباشرة منه هذه التجربة الفريدة كروائي فريد واستثنائي، أسمعت كلماته، وأبهر أدبه كل الوطن العربي من الخليج إلى المحيط . فلننظر معا هذا الحوار المرجعي لهذا القاص الفلتة الذي لا أتوقعه إلا متربعا على عرش الرواية، فاعلا بها وفيها ما فعله المتنبي بالشعر… لندخل إذن جميعا وبسرعة عالم أيمن العتوم الثري، العجيب، والملحمي.

 

 

  • مرحبا دكتور أيمن العتوم، كيف بدأتم رحلتكم مع الكتابة، بداية قرضتم الشعر، ثم تحولتم إلى الرواية. كيف، ولماذا؟ وهل تعدل بين هاتين الضرتين؟ وكيف تفيد المَلَكة الشعرية تجربتكم الروائية على مستوى الأسلوب، الخيال؟ الصورة؟
    ج) حياكم الله دكتور. أكتب منذ أن كنت صغيرا، بدأت القراءة في الخامسة، كان يقرَأ لي في البداية، ثم صرت أقرأ وحدي بعد السادسة من عمري أو السابعة، وتشكلت لدي حصيلة معرفية لا بأس بها، مناسبة لعمري آنئذ وأنا في الصف الخامس أو السادس الابتدائي، مما عنى أنني بدأت الكتابة في الحادية عشرة من عمري، كانت بداياتي في الكتابة مع القصة القصيرة، ثم صرت أكتب الشعر المقفى غير الموزون، بدأ ذلك بالفعل في الحادية عشرة من عمري، أما أول قصيدة موزونة كتبتها فكانت وأنا في الصف السابع، كنت في الثالثة عشرة من عمري، غير أنها ضاعت، وأحتفظ بنص القصيدة الثانية التي كتبتها كان مطلعها:
    ماذا أحدث أو أقول عن أمتي ذات الأصول
    كانت بحارا في السخاء ضَراغما إذ ما تَصول.
    ثم انتشر الشعر في روحي انتشار الضباب في الآفاق، وتحولت مع منادمة الشعراء الذين غبرت عليهم القرون الخالية إلى شاعر، وبدأ الشاعر في أعماقي يكبر، إلى أن صارت أعناق الناس تلتفت إلى الشاعر الذي كنته رويدا رويدا، وتصغي إلى صوته قليلا، استمر ذلك ربع قرن أو أكثر، لَما صرت في الأربعين أحببت أن أكتبَ تجربتي في السجن ما بين عامي 1996م و1997م في نص، لم أكن أدرك ما هو تماما، نص نثري، قد يكون مذكرات أو يوميات أو سيرة ذاتية أو تأملات أو اعترافات، أو سمها من فنون النثر وفتونه ما شئت، غير أن الناشر كان له رأي آخَر، قال: إنه هذا النص سردي، وهو أقرب إلى الرواية، فسماها كذلك، وبدأت رحلتي مع الرواية مع (يا صاحبَي السجن) عام 2012م.
    انتشرت الرواية، وتمددت، وطافت البلدان العربية في ستة شهور، وتغلبت على ربع قرن من الشعر، فاتجه قلبي إليها، غَضبَ الشعر، فحاولت أن أسترضيه، لكنه تمنع وتأبى. ومع أنه ابتعدَ عني مع الزمن، إلا أنني كنت أتسلل إليه من حين إلى آخر، بمراودته عن نفسه في الرواية، صرت أكتب الشعر في الرواية، أو أستخدم تاريخي مع ما فيها، غير أن هذا أزعجه أكثر، فنأى بنفسه عني أكثر من عشر سنوات، لم أكتب فيها إلا قصائد نادرة، بيد أنه عادَ إلَي في السنة الأخيرة، غير أن عودته ظلت مشوبة بالقلق والترقب والحذر، ولم يغفر لي ما مضى.

 

  • هل يمكنك أن تحدثنا عن طقوس الكتابة لديكم؟
    التوقيت، تهيئة مناخ الإبداع، العزلة، نود منكم نقل القارئ المغربي لجو الكتابة عندكم بالتفصيل؟
    ج) أكتب غالبا صباحا. أحتاج القهوة إلى جانبي دائما. الليل عندي للقراءة. لكن أوقاتي تتداخل، لا وقتَ يستمر تماما في القراءة أو الكتابة. أنخطف في لحظة الكتابة، وخاصة حين أكتب وصفا، أغيب عني، لا أعرفني. حين أصف لا أكتب، إلا بعد أن أمنح نفسي وقتا كافيا لتخيل المشهد الذي أكتبه. أكتب بحرارة، وأندمج مع المشهد بكل جوارحي، أبكي، أنشج، يقشعر بدني، أشعر بوجع في القلب، أنزف، أدوخ، أشعر بالانفصال عندي، وقد أسقط.
    الكتابة بمعزل عن الناس، وحتى بمعزل عني، لا أكون معي وقتَ الكتابة، يكتب ذلك الذي يتخيل، يسبح في عوالم متشابكة، كتاباتي في الهدوء هي الأنقى، ولذلك أبحث عن عزلة حقيقية أو عزلة نفسية. لا أحب اللقاءات العامة، ولا الصخب، ولا ألج ذلك إلا مضطرا.
    أقرأ كثيرا قبل أن أكتب صفحة واحدة. أخطط ما أقرأ، أحفظ نصوصا أعجبتني، يفيض الشعر على لساني في حالة من اللاوعي، أهذي بكلمات وأبيات مر على استظهارها من جديد أكثر من ثلاثين عاما.
    أحاول أن أجعل المكتب الذي أكتب فوقه نظيفا مرتبا، ولكن ذلك لا يحدث، أكتب في فوضى من الكتب التي تتناثر من حولي، والأوراق التي تتوزع هنا وهناك، والقصاصات المبعثرة.

 

  • الإبداع عبارة عن ألم ومعاناة ومخاض، إلى أي حد تساهم الرواية في غسل الذات لدى الكاتب وتحقيق خلاصه الفردي، راميا بكل تلك الآلام إلى القارئ؟
    ج) أثناء الكتابة أنا أتمزق مع كل حرف، قبل الكتابة أنا في أرق دائم، الفكرة تعذب العقل، والبحث عن أسلوب فريد من أجل كتابتها يعذب القلب، وفي الطريق إلى العثور على الأسلوب المناسب تتعذب الروح، أنا قلت من قبل: الكتابة نوبة صرع طويلة، ولا بد من الهذيان أثناء الكتابة، لا بد من أن يتطوح جسد الفكر، لا بد من الغيبوبة الحميدة، كل هذه العذابات ربما لا يكفيها من أجل أن تشفَى الانتهاء من العمل، أنتَ تحتاج إلى إعادة هيكلة من جديد، أنتَ ربما بحاجة إلى شهر من أجل أن تتعافى من الارتدادات الاهتزازية لزلزال النص.

 

 

  • هل يمكن الحديث الآن عن رواية عربية؟ هل أصبحت الرواية العربية عالمية؟ أم هل يكتب الروائي العربي لأبناء وطنه وفي أقصى تقدير لأمته العربية؟ كيف نطور الأدب والرواية العربية؟
    ج ) نعم، يمكننا ذلك. ما الذي ينقص الروائي العربي الحقيقي حتى لا نتحدث عن أن روايته هي رواية عربية ذات خصائص متمايزة عن غيرها من الروايات الأخرى؟ قل لي ما الذي ينقصنا؟ الخيال؟ العاطفة؟ اللغة؟ الأسلوب؟ التقنيات؟ إننا يمكن أن نكون نسخة أفضل، إذا نحن بالفعل أخذنا عملنا بالجدية، وكان خيالنا محلقا، وعاطفتنا قادرة على أن تنتزع الدموع من عيون الصخر، ولغتنا؟ إننا نمتلك لغة شاعرية رحبة، بحيث إنها تفرحك في أول الجملة وتبكيك في آخرها. ثم الأسلوب؟ إن الروائي العربي الجيد قادر على أن ينتهج أسلوبا خاصا به يصبح سمة مميزة له، أليس لنجيب محفوظ أسلوبه الخاص؟ أليس لعبد الرحمن منيف كذلك هذا الأسلوب الذي إذا قرأت له فقرة، قالت لك الكلمات إنه هو؟!
    أما تقنيات الكتابة الروائية فقد استقرت، وألفَت فيها كتب، وقدم فيها ورشات عمل كبار الكتاب أمثال ماركيز وسواه، إذا نحن أخذنا بالتدريب وبالمهنية هذه التقنيات، وأتقناها، وأضفنا إليها، فما الذي يمنع الرواية العربية أن تتصدر؟ إننا نظلم أنفسنا حين نرى الروائي العربي لا ينتشر ولا تباع كتبه في كل مكان. المسؤولية تقع على عاتقنا؛ نحن غالبا ما ننظر نظرة هوان واستفال إلى الروائي العربي، لماذا نحن مغرمون بجلد الذات؟ لا أدري. أتمنى أن يأتي اليوم الذي يقدم الروائي العربي الجيد على أنه جدير بالانتشار مثل غيره من الروائيين الغربيين، ولعلنا نحتاج أولا أن نمتلك الثقة بأنفسنا، أو نستعيدها، ونحتاج ثانيا إلى توسيط ثقافي، وأهمه ركنَان من أركان هذا التوسيط هما: النقد والترجمة. ولكن الحال كما ترى، لا نقدنا نقد، ولا ترجمتنا ترجمة، هذا إذا كانا موجودَين من الأساس.

 

  • أنتم قدوة للشباب الطامح لكتابة الرواية، تجربتكم ملهمة جدا، ما هي الشروط الضرورية المتطلبة لتخلق الروائي؟
    ج) الرواية صنعة، والنص الروائي صناعة، يمكن لمن سلك درب الكتابة أن يصل، مهما كانت العقبات، ومهما طالت الطريق، أو تخللها ضعف الرؤية أو الرؤيا، هناك كتب استخلصت تجارب الكتاب الناجحين، وقطرت تلك التجارب، وقدمتها مطبوعة للمسترشدين، أنا لم أكن في البداية مهتَما بالتقنيات، كانت كتاباتي تميل إلى العفوية والصدق والاسترسال، مع الزمن تعلمت أنه ليس من الحكمة أن تقول كل ما تعرف، أعني الثرثرة الزائدة في السرد أو الوصف أو الحوار، كانَ علَي أن أؤثث البيت الداخلي للرواية دون أن تضيق الغرفة بالموجودات، أو تظهر أنها خالية بسبب الفقر النصي، كان علَي أن أوازن وأن أكون ذكيا، هذا ما تعلمته لاحقا، صارت لدي خطة لا أقول إنها محكمة تماما في السيرورة النصية، ولكنها لم تكن على الجانب الآخر عشوائية.
    الشروط التي تصنع من الروائي روائيا ناجحا هي ذاتها الشروط التي تصنع من النجار نجارا ناجحا، ومن الموسيقي موسيقيا ناجحا… إنها الحب أولا، عليكَ أن تكتب بشغف وذهول، فقدان الحب فقدان حرارة النص. الشرط الثاني هو شرط معرفي، على الروائي أن يقرأ مائة رواية من أجل أن يكتب رواية واحدة، أقول هذا دائما. والشرط الثالث: سعة الخيال، روائي فقير في خياله وتخيله هو بالضرورة فقير في تعاطف الناس مع شخصياته واندماجهم معها. والشرط الرابع والذي يبدو للناس أنه يجب أن يكون في البداية هو شرط تعلم مهارة الكتابة من جهة ما، أستاذ، أو نص مرئي، أو نص مقروء.

 

  • لكي تصبح روائيا هل يجب أن تكون لك القابلية للإبداع، ما المقدار الذي تساهم به الرواية في خلق الروائي. هل الرواية صنعة تكتسب بالمران والمثابرة؟
    ج) بالضرورة، يُفْتَرَضُ أن تكون للكاتب في أي فن القابلية للإبداع، وتلك لا يعرفها أحد أكثر من الكاتب نفسه، إنها صوت داخلي يهتف في فضاء العقل والنفس أن هذا النائم في أعماقك جدير بأن ترعاه لعله يستيقظ يوما.
    إذا كنتَ تقصد في شقكَ الثاني من السؤال: (بالرواية) القراءة الروائية، فأقول إن ذلك ممكن، ولكنه ليس شرطا ولا ضروريا، يمكن أن يقرأ الإنسان ألف رواية ولا يستطيع أن يكتب فقرة واحدة، كما أنه يمكن أن يحفظ ألف بيت من الشعر ولا يكتب بيتا واحدا. إلا أنه مع ذلك على الروائي أن يقرأ الرواية ضمن ما يقرأ وينوع فيها بين صنوفها وأضرابها من جهة، وبين جغرافيتها، فيقرأ الأدب الأمريكي والروسي والصيني والأمريكي الجنوبي والإفريقي والعربي وسواها، عليه أن تكون قراءاته فسيفسائية، ثم لا تشكل قراءته في جنس الرواية أكثر من عشرين في المائة، عليه أن يملأ ما تبقى من نسبة قراءاته المجالات الأخرى؛ الفلسفة، التاريخ، الأديان، علم الاجتماع، علم النفس، وغيرها، لأنه سيحتاجها جميعا حين يهم بكتابة رواية ما.
    والرواية كما أسلفت صنعة، فيمكن أن تتعلم، غير أن القابلية قبل التعلم يجب أن تكون موجودة، المران جيد، وهو ضروري، وعلى الروائي أن يدرب نفسه، ويطور أدواته، أنا على سبيل المثال أدرب يوميا أو شبه يومي على تقنية الوصف، وعلَي إذا تشاكلت عندي المشاهد أن أطور أسلوبي ولغتي في هذه التقنية، إنها عملية مستمرة محمودة، الروائي الذي يقتنع بما لديه من هذه التقنيات وتلك الأساليب سيهرم سريعا، وستبدو لغته ومشهدياته منقرضة.

 

  • أنتَ من رواد الرواية العربية الواقعية، نريد أن تحدثنا عن جدلية الواقع والخيال في كتابة الرواية، كيف تستعمل كلا منهما؟ كيف ترى التفاصيل؟
    ج) لست كذلك على الحقيقة، ربما يمكن أن تقول إنني أحد الروائيين الذين شغلت مشروعهم – في ما شغلت- الرواية التاريخية أو الواقعية. هوس الناس بالتاريخ ومعرفة ما حدث فيه من غوامض لن يتوقف، الناس في هذه الحالة يبحثون عن الخيال في الواقع تماما، يجد الروائي الجيد منفذا لتحقيق هذه الرغبة من خلال البحث عن الأحداث التاريخية الحقيقية، التي تضم غرائب لا يمكن تصديقها فتختلط حينئذ بالخيال، فيحول السردي التاريخي إلى سردي روائي. فعلت ذلك مع المخطوطات الثلاث، كل مخطوطة هي قصة بطل من أبطال التاريخ الغابر، أحدهم سيد صار عبدا بالاختطاف إبان ذروة العبودية في أمريكا في القرن الثامن عشر الميلادي، والثاني طبيب اختطفه مرض صعب غير موصوف، والثالث شاعر أصابه الشعر بالجنون، ولو سألتَ كيف قدمتَ هذه الشخصيات الحقيقية الثلاث في ثلاثية المخطوطات، لأجبت إنني قدمتها في قالب جاذب بتعظيم الجانب الخيالي في شخصياتهم على الجانب الواقعي، عمر بن سيد مثلا، بطل المخطوطة الأولى التي تحولت إلى رواية (أرض الله)، كان عالما، عزيزا في قومه، اختطفَ وهو ابن سبع وثلاثين، ليقضي حوالي ستين عاما في العبودية وظل صابرا مستبشرا قادرا على أن يعطي الأمل من حوله طوال هذه العقود الستة من العذاب والتنكيل والوحشية، هذه يا سيدي ليست قصته الحقيقية تماما، لقد أضفت إليها شيئا مما يشبه الأسطرة. أما عبد اللطيف البغدادي، بطل الجزء الثاني المسمى (مسغبة)، فقد جعلته ينجو بحكمته من طاعون قضى على ثلثي سكان القاهرة في آخر عامين من القرن السادس الهجري، كيف ينجو؟ هذه أسطرة، هذا خيال، مع أنه مات على باب بغداد أول ما نجا، لم أشأ للأسطورة أن تستمر، إنني أتلاعب بمشاعر الناس وعقولهم. أما أحمد بن الحسين وهو المتنبي، بطل الجزء الثالث والمسمى (ساحر أو مجنون)، فقد جعلت الجن من أجل الأسطرة هي التي تَلده وتشهد مولده الأسطوري، وأن أباه بالإضافة إلى كونه الإمام الثاني عشر المنتظر فقد كانت لديه قوى علوية خارقة لا يمكن تفسيرها بشريا فنسبتها إلى الجن.

 

 

2/2

 

أيمن العتوم: لست إذاعة تقدم ما يطلبه المستمعون

 

 

قال في حوار مع «الأخبار»: شخصياتي تلتقي في المنتصف بين الواقعية والخيال

 

حاوره: د. خالد فتحي

 

يتعدى الروائي أيمن العتوم كونه أديبا أردنيا وعربيا مبدعا وفذا، إلى كونه ملهما ومعلما لفنون الرواية. إنه لظاهرة أدبية حقيقية بإنتاجه الغزير المتدفق، وتعدد الينابيع المعرفية والفكرية التي يغرف منها خياله، ولغته الرائقة الجزلة الفخمة، وأسلوبه الجذاب الجميل المنساب. فيه تتحد الصنعة الروائية بالموهبة، فتكتملان وتتكاملان، حتى أنك حين تحاوره أو تسمعه، لا تشبع ولا ترتوي. فتتبقى لديك أسئلة عالقة، ويتضاعف شغفك كي تتزيد من هذا الرائد الجهبذ، الذي يعد مدرسة أو أمة وحده في الرواية.
في هذا الحوار نغوص في عوالم وتفاصيل الكتابة وطقوسها، وشروطها، وطرائقها، بل وفي عذاباتها أيضا لدى أيمن العتوم، محاولين أن ننقل إليكم مباشرة منه هذه التجربة الفريدة كروائي فريد واستثنائي، أسمعت كلماته، وأبهر أدبه كل الوطن العربي من الخليج إلى المحيط . فلننظر معا هذا الحوار المرجعي لهذا القاص الفلتة الذي لا أتوقعه إلا متربعا على عرش الرواية، فاعلا بها وفيها ما فعله المتنبي بالشعر… لندخل إذن جميعا وبسرعة عالم أيمن العتوم الثري، العجيب، والملحمي.

 

  • كيف تخلق شخصياتك؟ هل تستمدها من الواقع، أم تلهمها، وهل تخضع الرواية أثناء الكتابة لتعديلات فجائية؟ هل تستبد بك شخصياتك، أم أنت من يحدد دخولها وخروجها وموتها وحياتها وانتصارها وهزيمتها؟ كيف تتقمص شخصايتك؟
    ج) أنا كما ألمحت في السؤال السابق، أخلط بين الواقعية والخيال، شخصياتي أرتفع بها من الواقعية وأنزل بها من الخيال، لتلتقي في منتصف المسافة الفاصلة بينهما.
    أما خضوع الرواية للتعديلات أثناء الكتابة، فإنها تحدث إلى الحد الذي تتحول فيه الرواية إلى رواية التعديلات، مع أنني أخطط للرواية أشخاصا وأحداثا وأمكنة وأزمنة قبل البدء، ولكن غواية السرد تفعل بي فعلها، فبالكاد تجدني أسيطر على الأحداث، غير أنني – بالمران- بدأت أعرف متى أتوقف عن الانخطاف للحدث وللسرد، ومتى أكون أنا سيده لا أن يكون هو سيدي.
    أما علاقتي بشخصيات رواياتي فهي علاقة معقدة متناقضة، إنها مزيج من الحب والكره معا، مزيج من الصلابة والهشاشة، مزيج من الاندغام والانفصال، مزيج من الاستقرار النفسي مع الأمراض النفسية بألوانها كافة وتبدلاتها. غير أنني لا أكتب عن شخصية لا أذوب فيها، كل شخصية بمقدار استحواذها على مشاعري وعقلي، بالمختصر شخصياتي مكرمة عندي، وتنزل لدي في المحل الأرفع، ولا تتصرف تجاهي حزنا أو فرحا إلا بسبب.

 

  • هل تكتب حسب ما يريده الجمهور، أم تكتب حسب ما تؤمن به، هل تقود الجمهور، أم هو من يقودك؟ ما الجدوى من الرواية مجتمعيا؟
    ج) ألبتة! قطعا لا. أنا صاحب مشروع، لم أكتب حرفا واحدا من ملايين الكلمات التي كتبتها رغبة أو رهبة، لا رغبة في قبول الجمهور ولا رهبة من رفضه، ولو أنني كتبت ما يطلبه الجمهور من استثارة الغرائز عن طريق قصص الحب والغرام وقصص الرعب والغموض، وقصص الجريمة لكنت – من يدري – من أكثر الكتاب في العالم مبيعا. أنا أكتب بالقيم العليا التي ألزمت نفسي بها. ربما إذا أردت أن تسألني سؤالا حقيقيا هنا، سيكون عكس سؤالك هذا، ستقول: لماذا لا تكتب ما يطلبه الجمهور؟ لماذا تكتب عن السجون وعن العذاب وعن الأحزان وعن العبودية وعن الطوفان وعن المجاعات والكوارث، مما لا يشكل ابتداء مواضيع جاذبة للجمهور؟ وسأجيبك ببساطة: لأنني لست إذاعة تقدم ما يطلبه المستمعون.

 

 

  • كتبتَ في أدب السجون، وفي العبودية، لماذا تركز على قيمة الحرية؟
    ج) لأنها أعلى قيمة خلقها الله في الإنسان، وأسمى غاية، ولخصتها مقولة عمر بن الخطاب، قبل ميثاق جنيف لحقوق الإنسان: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا». وهي التي تحدد وجود الإنسان، وإنسانيته، فالإنسان الحر إنسان، فإن فقد حريته فقد فَقَدَ إنسانيته، هذا من جانب. من جانب آخر ربما لأنني – على صعيدي الشخصي- عانيت من السجن لمدة عام، وسجنت من أجل أشعاري وكتاباتي، واعتقلت أكثر من ست مرات، وطوردت، وحيلَ بيني وبين الوظائف الحكومية كأن أدرس في الجامعات الأردنية، وأوقفت على الحدود حين أسافر منذ ما يقرب من ربع قرن إلى اليوم، ومنعت رواياتي في كثير من الدول العربية، وصودر بعضها، كل هذا الشعور بالظلم حولني إلى كاتب – كما قال أحمد مطر – يكتب بالسكين، وإلى كاتب جعل واحدة من مهماته السامية الدفاع عن المظلومين.

 

  • الرواية التاريخية، هل تشكل بديلا عن التاريخ، لماذا يُقْبِلُ عليها المواطن العربي، هل هو الحنين إلى الماضي التليد والهروب من الواقع؟ هل السبب أدبي، أم نفسي، أم تجاري، فالرواية التاريخية قابلة للتحويل إلى السينما والتلفزيون؟
    ج) الرواية ليست التاريخ ولن تكونه، إنها تعطيه في أفضل الأحوال مرونة في السرد تجعل قراءته مستساغة، ولهذا حين يسألونني: هل نأخذ الأحداث الواردة في رواياتك التاريخية على أنها حقيقة، أو مسلمات، أقول لهم: لا. مَن من كتاب الرواية التاريخية في العالم شرقه وغربه يمكن أن يقول ذلك؟ لا أحد.
    أما لماذا يقبل عليها الناس، ربما الحنين إلى الماضي كما قلتَ. الماضي جميل حتى وإن كان مرا وصعبا، ذلك أنه سَكَنَ في بئر الزمن فلا يمكن ليد أن تمتد إليه من أجل أن تغيره أو تلوثه، فكيف إذا كان ماضيا جميلا كما هو ماضي الأمة العربية وتاريخها وحضارتها، مَن منا لا يحن إلى الأندلس الفردوس المفقود، مَن لا يشتاق إلى أن يرى فلسطين محررة مثلما كانت على عهد عمر أو صلاح الدين، مَن لا يهتم بأن يعود حاضرنا مثل ماضينا مشرقا زاهيا، يسقي الأمم تجاربه الثرة وعلومه الثرية، نحن الآن في أسوأ ظرفنا التاريخي، نحن في ذيل الأمم، كيف تريد لنا ألا نَحِنَّ إلى الماضي الذي كنا فيه رادَة الأمم وقادَتَها، غير أن السؤال الأهم: ماذا فعلنا نحن من أجل أن نستعيد ماضيتا ونبني عليه، إن القطيعة معه ليست حلا، الحل يكمن في أن نجد لنا مساحة في عالم اليوم مسترشدين بعالم الأمس، هكذا فعل الغرب فتقدموا، ألم تسمع قول الشاعر محمود غنيم:
    استرشدَ الغرب بالماضي فأَرشَدَه
    وَنحن كان لنا ماض نسيناه.
    أما تحويل الرواية التاريخية إلى السينما فقد ولى عهد ذلك الزمن. نحن – أمة عربية- مستعدون أن نقدم ألف فيلم للسينما تهز فيه البطون وتمَسد فيه الذقون لكي يباع، وغير مستعدين أن نقدم فيلما تاريخيا حقيقيا واحدا. أنا أسالك من كل مائة فيلم عربي ساقط مضمونا، كم فيلما تجده قادرا على أن يفتح قلبك وعينك على الحقيقة التاريخية ويدهشك؟!

 

  • أنت معجب بالمتنبي، بل مريد له، وقد نقضت كل كتابات من يتهمه بالتكسب والتزلف لأصحاب المال والنفوذ، هل تراه أنت من جوانب أخرى؟ هل المتنبي مثلك الأعلى؟
    ج) المتنبي شاعر فرد، وغريب، واستثنائي على الصعيد الشخصي والأدبي، ولن تجد من يجمعهما – أعني الشخصي والأدبي- مثله من شعراء العالم كله، لا من شعراء العرب فحسب. قل لي: كم شاعر ارتحل في بلاد الله الواسعة مثله، ولو قَسَمتَ عمرَه على رحَلاته، لوجدت أنه لم يكن يقيم في بلد أكثر من شهر، ولقد صدق نفسه حين قال:
    غَني عَن الأوطان لا يتسفزني
    إلى بلد سافرت عنه إياب.
    وقوله:
    وَحيدٌ منَ الخلان في كل بَلدَة
    إذَا عَظمَ المَطلوب قَل المساعد.
    وقوله:
    يَقولونَ لي: ما أنتَ؟ في كل بَلدَة
    وَمَا تَبتَغي؟ ما أَبتَغي جَل أن يسمَى.
    أما مسألة تكسبه فتحتاج إلى تدقيق، لقد سعى إلى جمع المال حقا في بدايات حياته، حين كان فقيرا فقرا مدقعا، وكان يقطع الصحاري المهلكة والمفاوز المميتة على قدَمَيه الحافيتين، دون أن يجد راحلة يركبها، فلما استقرت حاله كان شأنه مع المال مختلفا، ولو أردت أن أبسط لك فلسفته في المال لاحتجت إلى مجلدات يستعين بها أهل علم النفس الاقتصادي، لكنني يمكن أن أطرحَ لك بعض أبياته التي تكشف عن نظرته إلى المال، فقد احتقره وقد احتقر مَن يجمعه، حين قال:
    وَمَن ينفق الساعات في جمع ماله
    مَخافةَ فقر، فالذي فَعَلَ الفَقر.
    أما ترفعه عن أموال الدنيا كلها فقد نَم عنه قوله:
    لا أَشرَئب إلَى مَا لَم يَفت طَمَعا
    وَلا أَبيت عَلَى مَا فَاتَ حَسرَانَا
    وَلا أسَر بمَا غَيري الحَميد به
    وَلَو حَمَلتَ إلَي الدهرَ مَلآنَا.
    وإذا أريدَ بهذا المال ذله، ترفع عنه وجانَبَه، فقال:
    ولا أقيم على مال أَذل به
    ولا ألذ بما عرضي به دَرن.
    ولعل أحسنَ ما يمكن أن يلخص فلسفته في المال ونظرته إليه، والحد الواجب من امتلاكه هو قوله:
    فَلا يَنحَلل في المَجد مالكَ كله
    فَيَنحَل مَجدٌ كان بالمال عَقده
    وَدَبره تَدبيرَ الذي المَجد كَفه
    إذا حارَبَ الأَعدَاءَ والمال زَنده
    فَلا مَجدَ في الدنيا لمَن قَل مَاله
    ولا مَالَ في الدنيا لمَن قَل مَجده.
    أما مسألة التزلف لأصحاب النفوذ فدعوى أخرى باطلةٌ لَصقت به، فقد كان أجرأَ الشعراء على الملوك والأمراء وأكثرهم احتقارا لهم، انظر إلى قوله على سبيل المثال:
    وجنبني قربَ السلاطين مَقتهم
    وَمَا يَقتَضيني من جَماجمها النسر.
    ولَما طلب منه سيف الدولة إبان مغادرته كافورا الإخشيدي أن ينسى الماضي ويعود إليه، رد في مقارنته بينهما، إذ شبه حبيبه سيف الدولة بالجواد الأصيل، وشبه بغيضه كافورا الإخشيدي بالثور الغليظ، ولكنه رَكبَ كليهما، وما أجرأ ما قال:
    ومَن رَكبَ الثورَ بعدَ الجوا
    د أَنكَرَ أظلافَه والغَبَب.
    فإن قلتَ: كيفَ مَدَحَهم إذا؟ أقول لك: لقد مدح نفسه من خلالهم، وما الصفات التي أوردها فيهم على سبيل المدح إلا صفاته هو، وإنما اتخذهم في أحسن الأحوال جسرا يعبر عليه إلى غايته!
    أما مثلي الأعلى فلا، غير أنني يمكن أن أقول إن أبياته الهاديات شكلت أكثر من ثمانين بالمائة من قراراتي التي اتخَذتها في حياتي، وإنه وحق الله لأمر عجب!

 

  • إذا كنا نبحث عن رواية يكتب لها الخلود، ما الشروط التي يتعين التقيد بها؟
    ج) الصدق، أعني أن تشتبك مع شخصياتك، تحبها، تكرهها، تمارس عليها نوعا من الوصاية، تذوب فيها لا بأس، تقتلها في لحظة فارقة ربما، فإذا قرأ لك الناس قالوا إنه يعنينا، وقالوا إننا كنا نريد أن نقول هذا الكلام ولكننا لم ندر كيف، فتكون أنت صوتهم، ولسان حالهم. ثم هذه الكتابة بحب، حب الكتابة، تلك الحرارة التي تشتعل في أعماق الكاتب وهو يرى حروفه تتخلق على الورق. ثم ذلك الموضوع الذي يدوم، الموضوع بمنأى عن الغرائز، الخطاب العقلي المتوازن، والشعوري السابر. ثم تلك الأناة في التخطيط، والدقة في السرد، بحيث تؤثث نصك دون أن تقع معلومة في مغالطة معلومة أخرى. ثم تلك القراءة المسبقة العميقة، إن كل رواياتي هي أبحاث لو أردت أن أنال على كل رواية منها درجة علمية لفعلت.

 

 

  • ما التحديات التي تواجهها كروائي في ظل التطورات التكنولوجية والرقمية؟
    ج) التطورات التكنولوجية سهلت عملية الكتابة، فلو أردت أن تجمع المعلومات حول حقبة زمنية، فإن التكنولوجيا تضعها بين يديك، المهم كيف تقوم بإعادة إنتاجها، كيف تسكب عليها من ماء إبداعك فتعيد تشكيلها من خلال عجينتك الخاصة.
    التكنولوجيا جعلت انتشار الرواية أوسع من ذي قبل، نحن محظوظون، صحيح أن الناس لا تريد أن تقرأ أكثر من فقرة على صفحة على «فيسبوك» أو منصة «إكس»، ولكن المشكلة ليست فيهم ابتداء، إنها فينا نحن الكتاب، إذا كنا قادرين على جذب هؤلاء أنفسهم من خلال الحرف المتوهج، والأسلوب الماتع، والفكرة الصالحة للنفاذ والاستمرار، واللغة العالية المأنوسة، فإننا يمكن أن نحول عيون القراء من صفحات التواصل السريعة التافهة إلى صفحاتنا الغنية المشرقة، إنه تحد كبير، ولكن الروائي الجيد قادر على أن يكسب هذا التحدي.

 

15) هل لديك مشاريع أدبية جديدة في المستقبل القريب يمكن أن تشاركنا تفاصيل عنها؟
ج) لدي مشاريع أطول من أن تنتهي، وروايات لا يتسع العمر لكتابتها، ولكنني أتخير وأتحير، لدي أكثر من خمسين فكرة ناضجة صالحة لأن تروى، كتبت روايات من سنوات ولم أنشرها، بدأت بأكثر من خمس روايات قطعت فيها أشواطا بعيدة وتوقفت، أنا كتلة ضخمة متحركة من المشاريع الكتابية، جنون الحرف صبغ كتاباتي بهذا الجنون وثَورَها. عن أي فكرة ومشروع سأتحدث؟! أنا أهذي!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى