شوف تشوف

الرأي

الرقم القياسي في السجون العربية (1-2) 

بقلم: خالص جلبي 

ما زال (رغيد الططري) في سجون البعثيين العبثيين منذ أربعين سنة بدون محاكمة وتهمة، وأتذكر حين أفرج عن عماد الشيحة من سجن صيدنايا بدمشق بعد أن نام في الحبس 31 سنة. فأخذ يومها عن جدارة لقب عميد المسجونين، وهو رقم يوازي مدة حكم كثير من أباطرة العرب؛ فبقدر حبس هؤلاء، بقدر استقرار عروش أولئك في صورة مقلوبة، كما في أغصان الشجرة وجذورها. فمن بؤس التعساء وأشلاء الضحايا نبتت الإمبراطوريات.
خرج الرجل في حلل الأموات، بعد أن وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا. وهي شهادة تقدير بامتياز على حجم الإنجازات الثورية. والعالم العربي في عمومه اليوم تحول إلى سفاري تسرح فيها الضواري، انضم إليها أخيرا ديناصور أمريكي لاحم من نوع (التيرانوساوروس Tyrannosaurus). مع هذا فقد تكون مسألة تبييض السجون مرحلة توديع العصر الجليدي السياسي، بعد أن وضع طغاة العالم العربي الشعوب في براد الأنتراكتيس.
في كتاب «نهاية التاريخ» الصفحة 60 منه، ذكر المؤلف (فرانسيس فوكوياما) أنه كان لا بد من تفكيك أجهزة الرعب (الأمن)، بعد أن أصبحت خطرا على من أوجدها: «فالتخلي عن الإرهاب المحض كان أمرا لا مفر منه، ففي النظام الستاليني لم يكن باستطاعة أحد من النخبة السياسية ذاتها أن يشعر بالأمان: لا قادة شرطة ستالين، يازوف وبيريا، اللذان أعدما؛ ولا وزير خارجيته مولوتوف الذي أرسلت زوجته إلى معسكر (الغولاغ)، ولا خليفته خروتشوف الذي وصف بشكل مثير كيف أن نظرة سيئة يرمق بها ستالين أحد أعضاء المكتب السياسي كانت تكفي لجعله يرتجف طيلة حياته، ولا حتى ستالين نفسه الذي كان على الدوام مهووسا بالخشية (بارانويا = Paranoia ( من حدوث مؤامرات ضده. لقد أصبح تفكيك نظام الرعب الذي يفتك بمنفذيه أمرا مفروضا، عندما سمح موت ستالين به».
وجرى قانون التاريخ أن أصحاب الامتيازات لا يتركون امتيازاتهم إلا وهم مكرهون، وفرعون لم يؤمن حتى أدركه الغرق، فقال: «آمنت أنه لا إله إلا الذين آمنت به بنو إسرائيل!»، فكان الجواب الآن.
وإذا كانت هذه الحقبة الجهنمية السوداء في طريقها أن تلف وتختفي وتصبح في ملفات الماضي، فهو أمر حسن، ولكن علينا أن لا نسرف في التفاؤل إنه لا يحب المسرفين. والقاعدة تقول إن من خرج من السجن دخل في سجن أكبر، ومن كان في السجن فكر في الإفراج عنه، ومن كان خارج السجن خاف منه فعاش في مظلة الرعب كل حياته، يراه عن اليمين والشمائل سجدا له وهم داخرون. وبذلك تعيش كل الأمة (ثقافة السجن) دخولا وخروجا، المخابرات جاهزون للاعتقال والضرب والترويع له ولعائلته على مدار الساعة، والزوجة تنام في فراش بارد، كما كانت (بينلوبي) تبكي زوجها أوديسوس المختفي منذ 20 سنة، كما اختفى الشيحا 30 سنة والططري 40 عاما ضعف ما اختفى فيه أوديسوس، والأهل والأم يحصون الأيام المتبقية بين الدموع والآهات، في وهم خادع أنه سيخرج متى انقضت مدة حكمه، ولو حكم فلا يعني أنه سيخرج مع انقضاء الأجل، لأن البلد يعيش ظروف الطوارئ خارج المنطق والقانون، يدخل فيه المواطن أقبية المخابرات الباردة بتقرير سري ويخرج بكلمة من القائد الأبدي. كما فهم هذا (رفعة الجادرجي) فذكر ذلك في كتاب «جدار بين ظلمتين»، الذي سطره مع زوجته (شرارة بلقيس) بمداد من دموع: أنه دخل بكلمة من صدام وخرج بكلمة منه. فعندما كان صدام المصدوم منهمكا في تجهيز بغداد لمؤتمر عدم الانحياز، قال له رجال العصابة من زبانيته: يجب أن تهيئ عاصمة الرشيد بما يليق بأمير المؤمنين ودرة المتقين، فسأل عن أفضل المهندسين، قيل له: هما اثنان؛ الجادرجي ومكية، «واحد بره والثاني جوه»، أما الأول فمدفون تحت الأرض، وأما الثاني فهارب في الغربة. قال الطاغية: الأمر سهل فمن كان (بره = بالتعبير العامي هو في خارج البلد) ندخله (لجوه = ندخله إلى البلد) ومن كان تحت نخرجه لفوق، هكذا بكل بساطة. وفجأة جاء (فرمان = كلمة تركية قديمة تعني الأمر الرئاسي) إخراج الجادرجي، فاقتيد إلى الطاغية بصندلتين مختلفتي القياس، وكان شرطه إن أدى المهمة جواز سفر (تجرأ جدا).
السجن في العادة ملتقى الأحرار، وليست صحبة مثل صحبة الحبوس. وأنا شخصيا كان لي شرف دخوله أربع مرات؛ فطحنت عظامي، وكسرت أسناني حتى صلحتها في ألمانيا بعد خمس سنوات، وما زالت في فمي بعد مرور 43 عاما تخدم، وليس من مواطن عربي في جمهوريات الخوف والبطالة إلا ودخل السجن، أو عرف من دخل السجن، أو زار سجينا يبارك له الخروج من المعتقل على خوف من فرعون وملئه، ومن خرج من السجن كان مثل حامل المرض يصيب بعدوى الشبهة كل من زاره.
السجن هو العملة اليومية في النظام الشمولي؛ فلا يرحب في مجتمعات العبودية بمقلقي النوم العام، ومن يكتب يجب أن يقول قولا لا يوقظ نائما ولا يزعج مستيقظا، ولا يحرض مخبرا سريا على كتابة تقرير سمي يودي بصاحبه إلى الظلمات. والسجن يجب أن يكون مكان التوبة النصوح بشروطها الثلاثة. ومن خرج منه عليه مراجعة الدوائر الأمنية مثل فروض الصلوات، للتأكد من خلو دماغه من جراثيم المعارضة، للوصول به إلى الحالة التي وصفها (أورويل) في كتابه «1984» من تحطيم النواة الأخلاقية الداخلية للفرد، فيحب القائد من كل قلبه مخلصا له الدين. وهذا الكلام لا يعود إلى نصف قرن فات وقته، بل ما زال في أقبح صوره. والطاغية في سوريا يعاد انتخابه بعد أن قتل مليونا من الأنام وهجر نصف سكان سوريا إلى أقطار المعمورة الأربعة من جزيرة سخالين وكمشتكا حتى الأرجنتين وجبل النار، حيث عبر ماجلان قبل 500 عام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى