هناك جانب آخر كشفت عنه قضية مباراة المحاماة ووزير العدل وهو دور شبكات وسائل التواصل الاجتماعي ومن يسمون أنفسهم مؤثرين في خلق وتوجيه النقاش العمومي داخل البلد.
وقد صدرت دراسة قبل أسبوع تقول إن نصف المغاربة لا يثقون بما يقوله المؤثرون، لكن المشكلة ليست هي أن 50 بالمائة من المغاربة لا يثقون بالمؤثرين، ولكن المشكلة الحقيقية هي أن 44 بالمائة من المغاربة يثقون في وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار.
قضية مباراة المحاماة أظهرت أن الأخبار التي تتناقلها صفحات بعينها يمكن أن توجه الرأي العام نحو حملات تستهدف شخصيات محددة لتصفيتها رمزيا، أحيانا بمعطيات صحيحة وأحيانا بمعطيات مضللة.
خطورة الاعتماد على شبكات التواصل الاجتماعي للتزود بالأخبار هي أن احتمال الوقوع ضحية أخبار كاذبة يظل مرتفعا، وقد أظهرت الدراسات والتقارير الاقتصادية أن الأخبار الكاذبة تكلف الاقتصاد غاليا، فخبر زائف حول دواء قد يكلف الشركة التي تصنعه خسارة فادحة في البورصة، وخبر زائف حول سياسي قد يكلفه مستقبله السياسي.
وهذا الأسبوع فقط قررت الشركات المعلنة الكبرى في العالم تخفيض ميزانية الإشهار التي كانت تخصصها للدعاية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، جنرال موتور وموندليز وفولزفاغن وبيلانساغا كلها شركات علقت إشهاراتها على تويتر الذي يعيش بنسبة تسعين بالمائة من عائدات الإعلانات. ومن شدة توجس شركات الإعلانات من مخاطر الاستثمار في الإشهار عبر هذه الشبكات عبّر أحد عمالقتها، WPP، عن اعتباره هذا الاستثمار “عالي المخاطر”.
فيسبوك بدوره يعيش أزمة إشهارات، خصوصا بسبب توجس البنوك وشركات التأمينات من الاستمرار في إعطاء إشهارات للموقع، إضافة لماركات عالمية كشانيل وميرسيديس ونيسان، وهذا بطبيعة الحال فتح شهية تطبيقات أخرى كتيكتوك وإنستغرام لاقتحام عالم الإشهار، لكن لن يمر وقت طويل لكي يفهم المعلنون أن هذه التطبيقات لا تقدم خدمة موازية للأموال التي تجنيها، وأن العودة لوسائل الإعلام التقليدية، تلفزيون راديو صحافة مكتوبة ورقية ورقمية، هو الحل الأنسب.
عندنا في المغرب لازالت شركات الإعلانات لم تصح بعد من “الصدمة الرقمية”، فبسبب رخص أسعار الإعلان عبر الصفحات الفيسبوكية وشخصيات الإنستغرام واليوتيوب الذين لا يطلب بعضهم سوى علبة شوكولاته أو هاتفا محمولا أو أحيانا مجرد دعوة للعشاء، فإنها تفضل إقناع زبائنها بتخصيص تسعين بالمائة من ميزانيات الإشهار لصالح الدعاية في صفحات وقنوات هؤلاء المؤثرين الذين لا مصداقية لأغلبهم.
والمصيبة أن شركات الإعلانات تتورط أحيانا من حيث لا تدري في تمويل محتويات تهاجم المؤسسات وتفضح خصوصيات الناس.
مشكلة بعض الشركات بالمغرب أنها صدقت فعلا أن أقرب طريقة للوصول إلى الزبون هي الإشهار عبر الديجيتال وشبكات التواصل الاجتماعي وذلك بإنتاج محتوى ينافس محتوى التلفزيون بسعر بخس. وهكذا أصبحنا نرى مسلسلات وسيتكومات وحوارات خاصة للترويج لمنتوجات هذه الشركات وأصبح الممثلون ومن يسمون أنفسهم مؤثرين يتهافتون على الظهور في هذه المحتويات للترويج لهاتف هذه الشركة أو شقة هذا المنعش أو ماكياج هذه العلامة، وكل هذا لكي يهرب المستشهر من الإشهار في الجرائد والمنصات التقليدية التي أصبحت في عرف هؤلاء الرأسماليين مكلفة.
وكم هم واهمون هؤلاء الأغبياء، فالجريدة الورقية ما زالت لها هيبتها، وقيمة الخبر المنشور في جريدة ورقية ليست هي نفس قيمته عندما يصدر في موقع إلكتروني مجهول أو صفحة فيسبوك أو تغريدة في تويتر، وإلا لكانت هذه الوسائط الافتراضية قد قضت على الصحف الورقية في أوربا وأمريكا وآسيا التي مازالت فيها الجرائد الكبرى صامدة، أو في الصين والهند، منبع التكنولوجيا والهواتف الذكية، والتي تبيع الجرائد الورقية فيها ملايين النسخ يوميا.
لقد صنعت شبكات التواصل من الخبر مادة متاحة مجانا للقراءة، والحال أن الخبر بضاعة يجب دفع ثمنها قبل استهلاكها، مثل الخبز تماما. وهؤلاء الذين يعتقدون أن شبكات التواصل تمنحهم الخبر مجانا من أجل سواد عيونهم واهمون، لأن أية منصة رقمية تمنحك خبرًا مجانيا فاعلم أن الثمن هو أنت، نعم أنت، فقد باعتك شبكات التواصل لشركات الإشهار مقابل منحك خدمة جعلتك تعتقد أنها مجانية وما هي بذلك.
إن من يساهم حقيقة بشكل كبير في إنعاش سوق الأخبار الزائفة وانتشار “الدجالين الرقميين” الذين يفتون في كل شيء ويفهمون في كل شيء هم شركات الإعلان التي تسمن شركات فيسبوك ويوتيوب وتويتر وإنستغرام وغيرها من التطبيقات بأموال الإشهار.