الرايس بنكيران و«التيتانيك»
بعد فيديو أمي فتيحة «مولات البغرير» التي أضرمت النار في جسدها بالقنيطرة بسبب الظلم، جاء الدور هذه الأيام على الرجل القروي المسن من نواحي العرائش الذي شاهدناه في «فايسبوك» يرتمي على الأرض مقبلا حذاء عنصر القوات المساعدة، مرددا: «الله أكبر بغينا المخزن يدينا للحبس»، بكل ما في المشهد من مهانة وإحساس مذل بكرامة المواطن. وإذا كان الأمر قد وصل بهذا الرجل البسيط إلى هذا الحد من اليأس المبرر على المستويين الاجتماعي والنفسي، فماذا سنقول عن رئيس حكومة يمتلك السلطة وجاه المنصب، ويفترض فيه أن يحل مشاكل المواطنين عبر كل هياكل ومؤسسات الحكومة التي يرأسها، لكنه يشكو ويشتكي ويطلب هو أيضا من الملك إدخاله السجن، وهكذا أصبحنا أمام موضة جديدة «كلشي باغي الحبس»، حكومة وشعبا.
لو وضع بنكيران، طيلة الخمس سنوات الماضية، برامج تنموية حقيقية لمواجهة إشكالات البطالة والتهميش والفقر والهشاشة، لما اضطرت النساء المغربيات إلى التسول أو بيع «البغرير» لإعالة أسرهن.. لكن الحكومة تعتبر الفقر مجرد إشاعة من المشوشين والمغرضين.. ومن استمع إلى الوزيرة الحقاوي وهي تناقش قضية «مي فتيحة» في البرلمان، وتعدد على مسامعنا صناديق برامج الدعم المزعومة للمطلقات والأرامل والأيتام وبطاقات «راميد»، وتقول إنه لا يوجد فقر في المغرب بأقل من دولار في اليوم، لخرج المرء بخلاصة وحيدة هي أن إحراق «مي فتيحة» لنفسها هو مجرد إشاعة أيضا.
لكن ما أشبه اليوم بالبارحة، فـ«الربيع العربي» جاء على جثة محمد البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده وأطاح ببنعلي وما جاوره في مصر وليبيا واليمن، والإخوان عندنا حملتهم موجة هذا الربيع، وينهون هذه الأيام ولايتهم الحكومية على وقع إحراق المواطنين لأجسامهم أمام الإدارات والمقاطعات في مراكش وأكادير والدار البيضاء وتازة. وحين استبق الملك محمد السادس هذه المآسي الاجتماعية، وقال في خطاب العرش لسنة 2014: «إذا كان المغرب قد عرف تطورا ملموسا، فإن الواقع يؤكد أن هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين، ذلك أنني ألاحظ، خلال جولاتي التفقدية بعض مظاهر الفقر والهشاشة وحدة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة».. لكن يبدو أن الوزيرة الحقاوي إما أنها لم تنصت لخطاب الملك، أو أنها لا تمسح نظاراتها وهي تتجول في شوارع المملكة.
الحقيقة الوحيدة هي التي عبر عنها الملك في قمة الخليج، حين اعتبر «الربيع العربي» وقد تحول إلى خريف مشؤوم، خلف وراءه الخراب والدمار والمآسي الإنسانية، وعندنا حزب جعل هذا الربيع ورقة انتخابية أوصلته إلى السلطة، واستقوى على الناس بشعاراته وابتز الدولة حين تنبأ في أكثر من مناسبة بعودته إلى الشارع.. وفي الأخير امتلك السلطة وزهد في الإرادة السياسية، والنتيجة فئات اجتماعية في أقصى درجات الحرمان والتهميش تطالب بأدنى حقوقها في الصحة والتعليم والشغل والنقل وتساوي الفرص والحظوظ في الولوج إلى الخدمات العمومية.. فئات اجتماعية مسالمة لا مطالب سياسية لها ولا تريد إسقاط النظام ولا القيام بثورات مسلحة، تريد فقط حقها من العيش الكريم ولو كان بـ«طرف ديال الخبز» فقط، لكن مع كثير من الكرامة والاحترام لإنسانيتها.
حين كان الملك محمد السادس يرفع من معنويات المغاربة ويرفع التحدي عاليا، ويحدد في خطاب قمة الرياض ملامح مغرب استراتيجي جديد، قوي متماسك ومستقل في قراراته ومصالحه الاقتصادية وعلاقاته الدولية، كان قادة الحكومة والأغلبية عندنا منشغلين بالعتبة الانتخابية ونصيب كل واحد منهم من «الكعكة».. أما بنكيران فكان يطوف على الجامعات الخاصة والمحافل الحزبية يحاضر بأن السياسة هي التي تحدد ثمن الخبز، وحين سألوه عن قضية «مي فتيحة»، اكتفى بتعليق يتيم بفرنسية رديئة لم يتجاوز عبارة «صافي مال»، كما لو كان يعلق على نهاية فيلم «التيتانيك»، وليس أمام سفينة البلد وهي تغرق تحت سلطته ومسؤوليته.